الصباح اليمني_مساحة حرة
قبل الطوفان الذي هندسه السنوار، كان اليأس يعتمل في نفوسنا أن تتحوّل القضية الفلسطينية إلى الماء الآسن، وحاولت صفقات التطبيع في المنطقة جرّها إلى مستنقع الركود والكسل بمبدأ “دعوا الثورة تتعفّن”.
بجسد نحيل عانى الحصار الجماعي، وبكتفين متوثّبتين لا تعرفان الذلّة، وبيدين تحملان السلاح، كل أنواع السلاح الممكنة، استشهد السنوار. هو المشهد الذي أراده الرجل خاتمةً لرحلة الجسد، ولكنه بالتأكيد ليس نهاية الرحلة الطويلة للتحرير، التي مشى فيها الفلسطينيون، وهو معهم.
فشلت “إسرائيل” مجدداً في نيل صورة “القتيل المطارد”، وحصدت صورة “الشهيد المقبِل المشتبِك”، وإذا كانت هذه الصورة ألماً موضعياً تحاول شطبه مع تقادم الزمن، ففشلها الاستراتيجي الأكبر في تكسّر أوهامها بتحوّل معنوي/ ميداني/ تفاوضي باستشهاد القادة.
الروح هي التي تقاتل
إذا كانت خطابات السنوار الحادّة واستعداده الصريح للشهادة وقامته المنتصبة زرعت العزيمة في نفوس عناصر المقاومة لتنفيذ الطوفان، فإن استكمال صورة الثوري العنيد بالشهادة عزّزت الشعور بضرورة استمراره (أي الطوفان).
إلى جانب استمرار عناصر المقاومة الفلسطينية بتنفيذ الكمائن الناجحة والاشتباك من المسافة صفر وإطلاق قذائف الياسين 105، ينمو على أطراف الطوفان حافزية عالية للمواجهة خارج حدود الجغرافيا الفلسطينية، وما عملية الشباب الأردنيين في النطاق الزمني نفسه لاستشهاد السنوار، سوى دليل على ذلك.
قبل الطوفان الذي هندسه السنوار، كان اليأس يعتمل في نفوسنا أن تتحوّل القضية الفلسطينية إلى الماء الآسن، وحاولت صفقات التطبيع في المنطقة جرّها إلى مستنقع الركود والكسل بمبدأ “دعوا الثورة تتعفّن”، وكان القلق من جيل تحوّله سطوة التسلية واللعب لمنظومة العولمة إلى مجرد أرقام صمّاء في المنظومة البشرية. قلب الطوفان الطاولة على ذلك المسار، وكأن حذاء المقاوم الفلسطيني علق في حلق التاريخ المستعصي على التغيير !
مع إن الإسرائيلي يصب اهتمامه على الأبحاث الاجتماعية لدراستنا وفهمنا أكثر، وهذا ما لا ننكره، فإنه كثيراً ما يعجز عن إدراك وجداننا، وربما لذلك علاقة بتاريخه الربوي الشاحب في لحظات أفول الإقطاع الأوروبي. هو لا يدرك جيداً أننا نعشق فكرة “البطل المخلّص”، ولكننا لا ننهار بعده، وتتحوّل نهايته البطولية إلى وقود يشحن إمكاناتنا، إلى الحد الذي يجعل كل واحد فينا يتقلّد تجربته، ويبحث عن سيرة ذاتية تشبهه.
استشهد عز الدين القسام نفسه عام 1935م، واندلعت بعده ثورة في فلسطين عام 1936م، ومرّ بعدها نصف قرن من الزمن لينشأ فصيل مقاوم يسمّي جناحه العسكري باسمه!
انهيار التنظيمات لا يشبه انهيار الشركات الصغيرة
بعد استشهاد السنوار، وقبله استشهاد سماحة السيد حسن نصرالله، استفاق كتاب التدخل السريع على حملاتهم الطارئة للتسميم السياسي في جدوى المقاومة.
المقاومة ليست حدثاً طارئاً، تنتصر فيه أو تهزم، هي ليست مبادرة مستعجلة لفترة زمنية محددة، وحتى الفكرة القائلة بضرورة الانتظار والترقّب والتخطيط طويل الأمد لا تعمل وحدها. المقاومة هي عملية مستمرة، يشتبك فيها التخطيط والممارسة اليومية، تتعرض لهزّات وانتكاسات وصعود وانتصارات.
لم يعرف التاريخ نموذجاً آخر في التحرر من الاستعمار، حتى خارج حدود تجاربنا العربية؛ ففيتنام عاشت قرناً من الزمن في طرد الاستعمار الفرنسي والأميركي والياباني، وكانت لحظة معركة “ديان بيان فو” تتويجاً للتجربة والممارسة والألم والعذاب في طرد الفرنسي من فيتنام. وعلى سكة مماثلة، سارت الجزائر بعد 130 عاماً من الاستعمار الفرنسي، وسيمون بوليفار لم يشهد تحرر أميركا اللاتينية الكامل في حياته، ولم يشهد مشروع “غراند كولومبيا” كما أراد.
ربما بدأ “طوفان الأقصى” بقيادة مركزية شديدة، ولكن جنون القصف الجوي الإسرائيلي، أنتج بـ “الممارسة اليومية” حلولاً للمقاومة في الاتصال والعمل؛ وزادت هوامش اللامركزية في حركة المقاومين ضمن مبدأ “العقد القتالية”، التي تمتلك هامشاً واسعاً في التخطيط والقرار والتنفيذ، وهذا ما يفسر نجاح عمليات متزامنة في جغرافيا تقطّعت أوصالها بالدمار الجنوني؛ فالقصف والاجتياح البري يفصل المدن عن بعضها، ولكنه يعجز عن منع 5 أفراد من اللقاء !
لأن الصهيونية مندمجة عضوياً في المنظومة الرأسمالية، كثيراً ما تخلط بين غياب المدير في منشآت الأعمال الصغيرة، وغياب قيادات المقاومة !
إذا كان كتاب التدخل السريع يسممون جدوى المقاومة بحجة الحدث واللحظة، فماذا يقولون عن جدوى التطبيع الذي انطلق قطاره منذ أكثر من خمسين عاماً؟ أكثر من 700 ألف مستوطن في الضفة؟ 14% للفلسطينيين من مساحة فلسطين التاريخية؟ المركز الأخير للعالم العربي بين 6 أقاليم عالمية في البحث العلمي؟ ( المصدر: مقالة للبروفيسور وليد عبد الحي بعنوان المشهد بين محور المقاومة ومحور التطبيع؛ إلى أين؟)
السنوار… حنجرة العناد الجماعي
“لا نعرف من سيكون على الطرف الآخر من التفاوض الآن، ولكنه لن يكون السنوار”، هذا ما صرحت به الخارجية الأميركية بعد استشهاد السنوار؛ آملة في استثمار اللحظة، لخفض سقوف المقاومة الفلسطينية. مع إن الولايات المتحدة أسست لنظام معقد ومركّب من المؤسسات في الدولة، دمجت بين العسكري والصناعي والأكاديمي والاستخباري بطريقة جديدة على التاريخ؛ لكنها مسكونة بمبدأ الفردانية الذي تقف عليه أسس الفلسفة الليبرالية، ولا ترى حالة العناد الجماعي التي تكثّفت في حنجرة السنوار؛ ردّت حماس مباشرة على ذلك بعدم التنازل عن شروطها لوقف إطلاق النار.
نظرياً، يستطيع نتنياهو استثمار لحظة الاستشهاد، وبيعها للجمهور الإسرائيلي لخفض سقف شروطه لوقف إطلاق النار، وللنزول عن الشجرة خطوة أو خطوتين بشأن أهدافه المعلنة من الحرب وغير القابلة للتحقق، كأن يعدّ القضاء على حركة حماس قد تمّ باستشهاد السنوار وهنية والعاروري؛ لكنه لن يفعل ذلك، لأن الحرب بالنسبة إلى “إسرائيل” اليوم هي محاولة تجريف قوى المقاومة ومبدئها، وتحييد خطرها لسنوات قادمة، ولذلك نتنياهو مستمر في محاولاته المتكررة لجرّ المنطقة إلى حرب شاملة تدخلها الولايات المتحدة بنفسها، ولذلك أيضاً لا أفق قريباً لوقف إطلاق النار، من دون الاستمرار في محاولة تجاوز عتبة الألم الإسرائيلي، التي رفعها نتنياهو إلى الحد الأقصى الممكن.
استشهد السنوار، والحرب مستمرة بمنطق السابع من أكتوبر، بفخر اللحظة وبصبر السنة.
المصدر: الميادين
خليك معنا