لابد من اضمحلال التطرف الطائفي والمناطقي، كما لن يكون ذلك الأمر مصادفة أو اعتباطاً، بل سيكون كضرورة ملحة لا بد منها لإنقاذ اليمن. فبالتأكيد، لا شيء يتكاثر في اليمن الآن سوى عدد الميليشيات والقتلى والجرحى والجوعى والمرضى والأيتام والأرامل و«السرق» من كل صنف ونوع.
لذلك، سنخلص إلى منتهى العقل والحكمة في حال تم الإجماع الوطني على التالي:
1- حكومة جبر ضرر الحرب تنموياً وإنسانياً وتعميرياً وتعويضياً بدون تمييز، مع تأجيل كل الخلافات السياسية لمدة لا تقل عن 5 سنوات.
2- إزالة الفوارق والامتيازات بإلغاء مصطلحي «شيخ» و«سيد» وتجريمهما.
3- نزع السلاح المنفلت خارج الدولة مع إدخال نظام البصمة لجيش وطني قادم بمعايير.
بمعنى آخر، على كل القوى السياسية أن تقر بخطاياها. ثم إن الحوثي نتاج طبيعي لخطايا تلك القوى الفادحة، وعليها أن تعيد الإعتبار للحلم الديمقراطي والمدني واللاإفسادي. فالحوثي استغل الإنشقاقات والانتقامات والتخبطات في الحركة السياسية والوطنية والمدنية، وأحرج الجميع وهو يقوض الجمهورية، ليدخلنا في دوامة الدم والتطييف والشتات، بينما ذات القوى استمرت في حالة شنيعة وبائسة ومحرجة من اللاواقعية والأوهام والغيبوبة.
وفيما لا يكفي أن نشاهد ما يحدث ونتحسر فقط على وطن فقدناه، فإنه لا يليق بنا أن نستريح في الندب وانتظار المجهول والمعتاد واليومي، بل علينا أن نضاعف من النقد والاستشراف وطاقات الأمل والنهوض.
فكل ميليشيا هي إرهاب، وتحديداً كل سلاح منفلت هو إرهاب بالضرورة. كما أن كل من يزعم أحقية احتكار تمثيل الشعب، بدون شرعية تفويضية ديمقراطية مقوننة، فإن غايته الوحيدة هي الإحتيال على الشعب باسم الشعب، لأن الشعب لا يمثله أحد سوى نتيجة الصندوق، وفي أجواء ديمقراطية سليمة.
أما الذين يزعمون بأنهم صوت الشعب، ويحملون السلاح لفرض إرادتهم بالقوة، عوضاً عن اعتقادهم بأنهم وكلاء الحقيقة والسماء، فهؤلاء هم أعداء الشعب، وأعداء الديمقراطية والجمهورية معاً.
والشاهد أن أكثر ما يعيق توقف الحرب هو تمكين إيران والسعودية وقطر والإمارات من نقل صراعهم ضد بعضهم إلى الساحة اليمنية، بموافقة الحوثيين ومناوئيهم معاً. ولقد أفضى ذلك إلى عدم مقاومة خطاب وأفعال الإنقلابيين الطائفية والمناطقية بروافع وطنية تصون مستقبل اليمن، وإنما بروافع طائفية ومناطقية مضادة ومقلقة ترتفع كل يوم وبغباء مرير.
والأسوأ، في ظل هذا المسعى ما بعد الكارثي، هو إغفال الشرعية والانقلاب لكافة التعقيدات الخطيرة واللاوطنية التي فاقمها الصراع، بداية بوضع اليمن تحت إرادة البند السابع، ووصفات الطباخين الدوليين التفتيتية في موفمبيك، ومروراً بالجائحة الإنقلابية الميليشياوية، وليس انتهاءً بما يجري حالياً من اختراع وصناعة عدة دول يمنية من العدم، كحل لمشكلة الدولة القائمة والمعلقة – ويا للمفارقات! – ما منح الضوء الأخضر لفرز وضع تطييفي مناطقي عصبوي بشع.
لكن كل هذه الأسباب والعوامل، رئيسية كانت أو فرعية، لم تكن لتجمح في الواقع هكذا ما لم يتم اعتبار شكل الدولة في مؤتمر الحوار هو المشكلة اليمنية فقط، وليس انحراف السلطة ومفاسدها وخروقات الدستور وعدم احتكار الدولة للسلاح وعدم تطبيق القانون العادل وعدم حل القضايا العالقة… إلخ.
ثم تأتي تداعيات مسألة الموافقة على منح الحصانة لصالح ومن عملوا معه، كفعل أخرق ضد النواميس الكونية، وتفريط وقح بدماء الشباب، بينما لايهمه شيء سوى إعادة ترتيب أوراقه لتحقيق آفة التوريث. وفي السياق، تعامل هادي في الرئاسة الإنتقالية بمنتهى الخفة والاعتباطية مع قضايا مصيرية مستجدة ومتفاقمة، معتبراً أن سلبيته والتمديد له أهم إنجازاته، إضافة إلى اعتباره الفيدرالية الوصفة السحرية التي ستنقل اليمنيين بغمضة عين إلى حالة السعادة الوطنية الأبدية.
وبالطبع، فإن كافة الكيانات المشاركة في مؤتمر الحوار، إضافة إلى تلك الموقعة على المبادرة الخليجية أساساً – وهي جميعها للأسف هرولت وراء المكاسب السريعة أو المتخيلة – لم تكن تتوقع، وهي تراوغ أو تقامر بمستقبل اليمن واليمنيين، أن الدولة عرضة للانهيار السريع الذي لن ينجو منه أحد، وأن ما سيحدث من مآس للمجتمع لا يمكن أن يجلب النشوة الإنتقامية، وإنما اللعنة التاريخية هي التي ستكون حصاد الجميع بدون استثناء، حتى لو انقسمت تلك الكيانات بفعل تداعيات الصراع طبعاً، وصارت كيانات انقلابية وشرعية؛ إذ لا فرق أصلاً بين الذين عمقوا الحفرة وبين الذين وقعوا فيها، وكذا بين الذي يتبجح بوطنية وعيه الطائفي والمناطقي المقيت والمقرف، وبين من يؤمن بمنتهى البلاهة والتشوه بأن طائفيته ومناطقيته المضادة هي خلاصة الوطنية اليمنية والخلاص الحقيقي للشعب!
بالمقابل، ثمة استحقاقات سياسية واقتصادية واجتماعية عاجلة لا نستطيع مواجهتها بالتطنيش والقوة الخاوية وعدم الحكمة، إذ لم يعد أمام اليمنيين سوى 3 خيارات أحلاها أكثر من مرير، بل يمكن القول إنه صار في طور المستحيل جراء التحولات الكبيرة التي قوبلت بمزيد من العناد، كما حولت العجز المتراكم إلى حالة لا وطنية بائسة وعدمية، تُوسع من أحاسيس عدم الثقة داخلياً وخارجياً، بدلاً من إحلال القناعة الوطنية المطلوبة للعمل من أجل الصالح اليمني العام. تلك الخيارات، وجلها قاسية ومكلفة في الشكل والمضمون، تؤكد – أولاً وأخيراً – أننا أدمنّا الفشل في إنجاز التغيير وتحقيق الدولة التي تحتكر السلاح ويسودها القانون، فما بالنا وقد تضخمت التحديات كما تضاءلت الفرص، والجمهور المنهك لم يعد قادراً على مغامرات مراكز القوى أكثر؟!
وعليه، ليس هناك الآن سوى تسوية الملعب السياسي بأنقاض الحل العسكري، على أن يكون القرار والمسؤولية خارجيين، أو تسوية الملعب السياسي بأنقاض الحل العسكري على أن يكون القرار والمسؤولية داخليين، أو لا تسوية للملعب كما ليس من قرار داخلي أو خارجي فاعل وضامن لتبقى الأوضاع في مهب الريح فقط.
والمعنى على هذا النحو بقاء الأوضاع معلقة على خيط رفيع إلى هاوية سحيقة، لا تستطيع أن تفضي – حسب مقتضيات المسؤولية – إلى حلحلة المواقف المتصلبة والصارخة والمأزومة التي ترفض مواجهة الإستحقاقات بإيقاف الحرب ومنع انهيار آخر ما تبقى من كيانية الدولة، مروراً بالانخراط في الحوار عبر التعاطي الواقعي في مناقشة القضايا المتباينة، مع عدم البقاء في دائرة الإنتقامات والإفسادات، وصولاً إلى ضرورة تنفيذ الإلتزامات المطلوبة بلا مزايدات تذكر أو مراوغات وتنصلات من أي نوع.
ولكن، بينما تتعرض اليمن لاختبار وجودي رهيب الآن، يراد لنا أن نصدق بأن الشيخ والسيد والفندم والإرهابي كان همهم العمل في سبيل الوطن والجماهير. وللتوضيح، فإن التسوية المقصودة هنا تأتي بمعنى التوازن والنضج في التزامات وتنازلات كل الأطراف الداخلية والخارجية ذات الصلة.
إلا أنه في الوقت ذاته أيضاً، يبقى علينا أن نكاشف أنفسنا ونفكر بما تمخضت عنه سوءة الأحلاف والمطامع الخارجية في اليمن، بينما على السعودية بالذات أن تضع السؤال لنفسها: كيف يمكن لليمنيين استعادة الثقة بالسياسة السعودية بعد عقود من الإستلابات والتسويفات والخذلانات والإعاقات؟
كذلك، فإن السؤال عن ماهية الرؤى الإستراتيجية لكل الأطراف المعنية دون تضخيم بليد وموهوم للذات أو للآخر، سيبقى هو السؤال الأبرز خلال هذه المرحلة الحرجة. والحال أن أي مراقب محايد بإمكانه تمييز الفارق الذي حدث للجميع دون استثناء على كل الأصعدة بعد أعوام من الإنقلاب والتدخل والحرب الطاحنة، في حين أن الحساسيات المختلفة بين الداخل والداخل، كما بين الداخل والخارج، سببها الأساس عدم تخلصنا من ذهنية الغالب والمغلوب والتابع والمتبوع، لا بسبب مسؤوليتنا تجاه المجتمع والدولة.
وإذا كانت المراوغات المكرورة لا يمكنها أن تقود أبداً إلى القرارات والمسؤوليات الإستثنائية، فإنه لا يمكن أن تقودنا العصبيات والثارات والمصالح الصغيرة للاستقرار وللبناء ولحل الإشكالات التي تتعقد كل يوم أكثر. كما، بلا شك، فإنه بتعديل موازين القوى تنفتح خيارات جديدة غير متوقعة يجب التعامل معها بدينامية كما تقول وقائع التاريخ.
والمطلوب الآن قراءة واقعية وعميقة للتحولات التي تضطرم في الواقع، وحتماً ستأتي اللحظة التي سنخلص فيها إلى أن أي طرف لن يستطيع إعادة صياغة المستقبل حسب مقاسه فقط كما قد يعتقد، إلا أن الخشية أن تأتي تلك اللحظة بعد فوات الأوان.
وأما من له عينان فيمكنه أن يلاحظ بمنتهى السهولة مأساة ما نحن فيه، وأن يفكر بالمخرج المفترض للتناقض المتسع، مع ما يعنيه ذلك من حصر الصراع في بعده السياسي وعدم تحويله إلى صراع سني شيعي مثلاً. فإذا كان صحيحاً أننا فكرنا بمشاكل مرحلة الإنقلاب على كل المستويات، فعلينا التفكير بمشاكل مرحلة ما بعد الحرب من كل النواحي. هذا عن أولويات المرحلة.
أما عن مكافحة الإرهاب، فيُفترض أن تكون استراتيجية يمنية إقليمية دولية مشتركة لا مهادنة فيها. وبما أنه لا يمكن التغاضي عن جموح السلاح الحوثي، فلا يمكن على الإطلاق الإنسجام مع جموح السلاح «القاعدي».
وباختصار شديد: يكفي الدماء التي سالت عبثاً. يكفي كل هذا التصدع الشامل الذي نتماهى فيه دون أن ندرك فعلاً لا قولاً حجم الضرر الذي يتعرض له المجتمع جراء الإستعلاءات والاقصاءات والترهيبات والانهيارات الحاصلة، فضلاً عن عدم استيعاب المتغيرات والأعباء والضغوط.
يكفي كل هذا الكم الهائل من الإبتزاز والاستئثار والتهريج المشوه والمأزوم والمستمر باسم الله وباسم الوطن وباسم الشعب.