تكاد العملية العسكرية التي أطلقتها المملكة العربية السعودية في اليمن تحت غطاء “التحالف العربي” تدخل عامها الثالث، ولمَّا تحقق السعودية بعد هدفها المعلن، إعادة الحكومة الشرعية إلى العاصمة صنعاء وهزيمة الحوثيين وحليفهم الرئيس المخلوع، علي عبد الله صالح. ليس الفشل في اليمن عسكرياً فحسب، بل إنه يتعدّى ذلك إلى كارثةٍ إنسانيةٍ حَلَّت بالشعب اليمني، وهو ما جعل من تغيير لافتة العملية العسكرية من “عاصفة الحزم” إلى “عملية إعادة الأمل” مجرّد نكتةٍ سمجة، لكنها دموية وقبيحة.
فلا “الحزم” قد نفع، ولا “الأمل” قد عاد، بقدر ما أن اليمن قد تشظّى أكثر فأكثر، وأصبحت فيه سلطات ومراكز قوى، منها من يعمل وكيلاً لجهات أجنبية، تتنازع السيطرة فيه وعليه وتمزّقه فوق مُمَزَّقِهِ. دع عنك، هنا، تدمير البلد، والسطو على أراضيه وموانئه ومقدراته.
لا ينكر كاتب هذه السطور أنه كان أحد مؤيدي “عاصفة الحزم”، عند إطلاقها في شهر مارس/ آذار 2015. كغيري من عربٍ كثيرين، لم أرد أن أرى عاصمة عربية أخرى تسقط في براثن الشَّرَكِ الإيراني. يكفينا عارنا في بغداد ودمشق وبيروت. كنت، كغيري، أدرك حينها الدور السلبي الذي أدته المملكة في اليمن، عبر تمكينها صالح من لعب دور تخريبي في البلد بعد خلعه من الحكم، ثم الدور الكارثي الذي ساهمت فيه عبر السماح للحوثيين بالتمدّد من محافظة صعدة نحو وسط اليمن وجنوبه وشرقه.
أرادت السعودية، ومعها الإمارات، كسر العمود الفقري للثورة الشعبية السلمية التي أسقطت صالح عام 2012، وذلك تماماً كما تآمرا في غير بلد، كما في مصر وليبيا وتونس. كما أنهما أرادا التخلص من التجمع اليمني للإصلاح، ضمن حملتهما المهووسة والمسعورة على كل ما يمت للإخوان المسلمين بصلة.
وكانت النتيجة الكارثية أن فُسِحَ المجال واسعاً أمام الحوثيين، لاقتحام صنعاء في سبتمبر/ أيلول 2014. أدرك كثيرون هذا الدور السعودي، ولكننا مَنَّيْنا، حينها، أنفسنا، واهمين، كما أبان.
“بعد قرابة ثلاث سنوات من الحرب التدميرية في اليمن، لم تعد الشرعية فيه، ولم يُهزَم الحوثيون وصالح”
مسار الأحداث أن المملكة أدركت حجم خطئها في اليمن وغيره، بعد وفاة الملك عبد الله بن عبد العزيز، وبأنها ستسعى إلى إعادة حساباتها وضبط البوصلة العربية نحو التهديد الإيراني، من دون أن نغفل أننا كنا نعلم أنها ستضع التوافق مع إسرائيل في اعتبارها، لكننا أخطأنا في تقدير الفجاجة والسرعة في تجسيد ذلك.
بعد قرابة ثلاث سنوات من الحرب التدميرية في اليمن، لم تعد الشرعية فيه، ولم يُهزم الحوثيون وصالح، ولم يُقَلَّصِ النفوذ الإيراني هناك. وثالثة الأثافي أن إسرائيل أصبحت الحليف العلني لمعسكرٍ عربيٍّ يصف نفسه بـأنه “محور الاعتدال العربي”، ولكن من دون أن يحققوا أي إنجاز من تحالفهم ذاك، اللهم إلا إذا اعتبروا الإضعاف المضاف في الجسد العربي، كحصار قطر والمساومة على فلسطين والقدس والأقصى، إنجازات يباهون بها.
اليوم، يحث اليمن الخطى سريعاً نحو الهاوية، بفعل العمليات العسكرية. الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة، وغيرها من المنظمات غير الحكومية، يقرعون أجراس الإنذار. اليمن يموت.
ولكن، لا مجيب ولا مغيث. نحو ثمانين في المائة من شعب اليمن في دائرة الجوع اليوم. والنسبة نفسها من أطفال اليمن بحاجة ماسّة إلى مساعدات إنسانية فورية، من بينهم مليونان يعانون من “سوء تغذية حاد”.
عاود وباء الكوليرا الظهور في اليمن، وقضى على قرابة ألفين إلى اليوم من أصل أكثر من 400 ألف حالة محتملة. وحسب رئيسة منظمة “مواطنة” اليمنية، رضية المتوكل، فإن “الكوليرا كارثة ناتجة من أفعال الإنسان. وفي اليمن، هي نتيجة المستشفيات المدمرة وانقطاع التيار الكهربائي ورواتب القطاع العام غير المدفوعة منذ عشرة أشهر، إلا في حالات استثنائية، ما أدى إلى تكدس النفايات في الشوارع”.
وتحذّر المتوكل من أن عدم اتخاذ أي خطوة إنقاذية سيغرق البلاد في مزيد من المعاناة، فـ”من الآن حتى عام 2018، سيقارب عدد اليمنيين الذين يحتاجون إلى مساعدات إنسانية 30 مليوناً”. وتتضاعف المأساة، وأنت تقرأ عن مرضى السرطان في ذلك البلد المنكوب، وغلاء الأدوية، وفقدان كثير منها، من دون أن ننسى حجم الدمار الذي حل بذلك البلد وبنيته التحتية، وقبل هذا وذاك من دون أن ننسى آلاف القتلى والجرحى، الذين أكثر من نصفهم من المدنيين، ومئات آلاف من النازحين.
ولكن، كأن كل ذلك الثمن الباهظ الذي دفعه الشعب اليمني في مقابل تحرير لم يأتِ يبدو كأنه غير كاف! ففي حين لا يكاد يفهم المراقب ما الذي تريده السعودية في اليمن، يبدو أن الإمارات تعرف ماذا تريد، فعدا عن استضافة الحكومة اليمنية “الشرعية” في الرياض، ممثلة بالرئيس
“ثالثة الأثافي أن إسرائيل أصبحت الحليف العلني لمعسكرٍ عربيٍّ يصف نفسه بـأنه “محور الاعتدال العربي” عبد ربه منصور هادي، ورئيس وزرائه ووزرائه، وعدا عن قصف اليمن من دون أفق سياسي أو عسكري، لا تقدّم السعودية تصوراً واضحاً للمستقبل هناك. وفي الحقيقة، يُعامل هادي وأركان حكومته معاملة الرهائن والتابعين في السعودية، ومن ذلك مسارعة هادي إلى إعلان الخصومة مع قطر، بعد أن أعلنتها دول الحصار الأربع، السعودية والإمارات والبحرين ومصر.
وعلى العكس من السعودية، تجد الإمارات تعيد رسم خريطة اليمن، فهي تعزّز سيطرتها على جزره وموانئه، كجزيرة سقطرى في خليج عدن، وميون في قلب باب المندب، فضلاً عن ميناء المخا وغيره من الموانئ على الساحل اليمني. كما أنها أنشأت مليشيات يمنية خاصة بها، كقوات “الحزام الأمني” التي يرأسها السلفي هاني بن بريك، و”قوات النخبة الحضرمية” و”كتائب أبو العباس”.. إلخ.
أبعد من ذلك، الإمارات هي من تقف وراء هيئة رئاسة المجلس الانتقالي الجنوبي، برئاسة محافظ عدن المقال، عيدروس الزبيدي ، الذي يتحدّى شرعية هادي وحكومته اللتين تدعمهما السعودية، ويسعى إلى فصل جنوبي اليمن عن شماله. أما اللغز المحيّر، الآخر الذي لا يجد جواباً له، فهو استضافة الإمارات بعض أفراد عائلة صالح، كنجله أحمد، مع وجود مؤشرات كثيرة أنها تعده لتولي رئاسة اليمن.
ولا يقف العبث الإماراتي في اليمن عند هذا الحد، فحسب منظمة هيومن رايتس ووتش، وغيرها من المنظمات الحقوقية الدولية، فإن الإمارات أقامت سجوناً عديدة خاصة بها في ذلك البلد، كما أنها اختطفت عشراتٍ خلال عمليات أمنية، وثمّة أنباء عن نقل محتجزين مهمين خارج اليمن إلى قاعدة في إريتريا، فضلاً عن شهادات موثقة عن تعذيبٍ مورس ويمارس ضد معتقلين سياسيين يمنيين.
باختصار، لم تحرّر هذه الحرب العبثية اليمن من الاحتلال الحوثي، ولا يبدو أنها في وارد تحقيق ذلك، بل كل ما أنجزته هو تدمير اليمن، إنساناً وحضارة وعمراناً. وإن صدقت النيات لمساعدة الشعب اليمني، فلتساعده السعودية عبر تسليح قواه الوطنية لدحر الحوثيين وقوات صالح، وتصفية النفوذ الإيراني في بلادهم. بغير ذلك، سيتدمر اليمن أكثر فأكثر، ولن يعدو الأمر أن يكون مسألة وقت، قبل أن تطاول النيران اليمنية السعودية نفسها، وهي قد بدأت تطاولها في نجران وجازان، وغيرهما.