مبدئياً، الكتب المدرسية الدينية كتب بشرية خالصة، فحتى النصوص المقدسة الواردة فيها خضعت لانتقاء وتوجيه دقيق، ووُضعت في سياقات نصية تعبر بالضرورة عن رؤى وآراء المؤلفين، أكثر مما تعبر عن القرآن الكريم أو السنة النبوية الشريفة.
يعني هذا ببداهة أن لا قداسة للكتاب المدرسي الديني، وبالتالي لا علاقة لتغييره بموقف مختلف من الدين، بل بتوجه تربوي مختلف، تقتضيه – تبعاً لتغير المتطلبات العصرية المتجددة – الحاجة لتحديث البنية العقلية والمعرفية والروحية للأجيال الصاعدة.
لكن، وفي حين يُفترض تغيير مختلف المقررات الدراسية، بما فيها المقررات الدينية، بمهنية هادئة، وبشكل دوري روتيني، كل بضعة أعوام، تحتل قضية تغيير الكتاب التعليمي الديني مساحة قابلة للاتساع من التشكك والتشكيك والرفض في الأوساط الرسمية والشعبية العربية، لحساسيتها الدينية والسياسية العالية، في ظل المد الأصولي لتيارات الإسلام السياسي، وتوسع وتصاعد القناعات والضغوط الدولية التي تربط بين التعليم الديني وظاهرة الإرهاب.
الإسلام – التعليم – الإرهاب
بعيداً عن هواجس التبرئة والاتهام، لا علاقة للإسلام بالإرهاب، وفي المقابل فإن علاقة الإرهاب بتسونامي المد الكارثي لإيديولوجيات الإسلام السياسي المعاصر، وبالذات في هذا المقام، بنوعية التعليم الإسلامي الراهن، أوضح من أن تخطئها العين.
المقررات الدراسية الحالية، في المدارس العامة والخاصة، والمعاهد الدينية، وبعض الكليات والجامعات، هي بالفعل، وفي جزء كبير منها، تزرع التزمت، وتغذي التطرف، وتنتج العنف، وتشوه البنية العقلية والنفسية والروحية والأخلاقية للمتعلمين.
على سبيل المثال، مقرراتنا المدرسية الدينية الحالية تتضمن:
– تكفير الآخر مذهبياً، لأوهى أسباب الاختلاف، والتكفير عملياً هو تصريح ديني بالتصفية الجسدية.
– النظر إلى المختلف دينياً كعدو مباح دمه، وعلى الأقل يجب مضايقته حتى بمزاحمته في الطريق العام.
– تعويم مفهوم المنكر، وممارسة النهي عنه، بما فيها إقامة الحدود، والقتل، بصفة فردية مباشرة، بعيداً عن القانون وسلطات الدولة.
في أحد كتب الثانوية العامة التي تدرَّس اليوم: يجوز للمسلم قتل الزاني المحصن، وأكله، وقتل المحارب، والمرتد وتارك الصلاة وأكلهم… بدون الرجوع للإمام (الدولة)!
هذا في مصر، أكثر البلدان العربية مدنية وتقدماً، وضمن مقررات الأزهر الشريف أكثر المدارس الإسلامية وسطية واعتدالاً. فكيف بالكتب المدرسية في المدارس التابعة للتيارات المتطرفة، وفي البلدان الأكثر رجعية، والأقل مدنية؟!
ثم إن مقرراتنا التعليمية الراهنة:
– مكتوبة بلغة تراثية، ومحكومة بوعي أصولي ماضوي، ما ينتج أجيالاً مغتربة عن العصر والحياة.
– تطابق بين البدعة والإبداع، والخلاف والاختلاف، بما يخلق بيئة مناسبة للتكفير لا التفكير.
– تهدف إلى تنمية الحفظ والالتزام والتقليد، لا الحرية والابتكار والاجتهاد، بما يكسب الأجيال الناشئة مناعة ذاتية لمقاومة التجديد والتغيير، وقيم الحداثة والمعاصرة.
– أبرز أولوياتها تنمية السلوك الملتزم لا التفكير الناقد، واحترام الثوابت والمسلمات، لا الشك العلمي والتجريب المنهجي، وتقديس المأثورات والخرافات، لا القوانين والقيم العلمية.
– هذه المقررات الدراسية، وُضعت لحل أزمة دينية، لمجتمع مشرك حديث عهد بالوثنية، في حين أن المجتمعات العربية، تشكو من فائض لا شحة التدين، أو بعبارة أخرى، تشكو من كل الأزمات، إلا الأزمة الدينية.
وقبل وبعد أيّ شيء آخر، تكمن مشكلة المجتمعات العربية والإسلامية، في مساحة المواد الدينية من التعليم، ومساحة الدين من الحياة، ومن الواضح أن نظامنا التعليمي ليس طبيعياً متوازناً، فيما يتعلق بتوازن الخبرات والمعارف المفترضة، ويشكو من تورم سرطاني مبالغ فيه، في الجانب الديني حيث:
– خُصصت للتعليم الديني مؤسسات تعليمية مستقلة، كالمعاهد الدينية، ومدارس مستقلة أو شبه مستقلة، كمدارس تحفيظ القرآن الكريم.
– خُصصت للدين كليات وجامعات خاصة، ومؤسسات عليا ممولة من منظمات أو أنظمة محلية أو أجنبية.
– خُصص للدين في المدارس الحكومية اليمنية على سبيل المثال: مادتان كاملتان، ونصف مادة اللغة العربية، وثلث مادة التاريخ، وربع مادة الجغرافيا، وخمس مادة الأحياء، ونسب متفاوتة من مقررات الكيمياء والفيزياء والرياضيات.
هذا من حيث الكم، أما من حيث النوع، فمن كل الآيات السمحة للقرآن الكريم، والأحاديث النبوية الشريفة، والاجتهادات والأفكار التراثية البديعة، اختار القائمون عليه، في الأغلب، آيات الحدود والجهاد والوعيد، وأحاديث النفاق والرجم والحيض والنفاس… والأفكار الأكثر تشدداً وعنفاً، للمذاهب الأكثر تحجراً وتقليداً، في إطار الفكر الحنبلي التيمي الوهابي.
إلى ذلك:
– المواد الدينية مواد إجبارية، وفوق ذلك تجبر المتعلمين على علوم زائفة، كالإعجاز العلمي، في مقابل عدم توفر، ولو بشكل اختياري، تخصصات علمية مهمة، وعلوم حقيقية كتاريخ الأديان، أو موسيقى، أو نظرية النشوء والتطور، أو ثقافة جنسية، أو مادة تعبير… إلخ.
– هذا النظام التعليمي قائم على الفصل بين الجنسين، بما لهذا الفصل من آثار فكرية ونفسية واجتماعية كارثية تتجلى شواهدها في كل اتجاه، في مقابل نجاح الدمج في كل الشواهد المعروفة.
الأمية والجهل أكثر تقدمية ورقياً إنسانياً وعقلياً، مقارنة بالتعليم الذي تقدمه مثل هذه المقررات والمدارس والكليات، ولعل واقع انعدام الأمية بين أعضاء «داعش»، يعطي إشارة واضحة عن طبيعة ومخرجات هذه الأنظمة التعليمية.
كل ما سبق، وغيره، يجعل من إصلاح التعليم خطوة لا بد منها، على الأقل لتجفيف المنابع الفكرية، واجتثاث الجذور الروحية، والمرجعيات الدينية التي تنتج ظاهرة الإرهاب.
لا مناص من إصلاح التعليم العربي، وإن كان يُفترض بالسلطات العربية أن تبادر بهذه الإصلاحات، بعيداً عن الضغوط والإملاءات الأجنبية، وبدوافع ذاتية بحتة لحل مشاكلها التنموية هي، قبل حل مشاكل الآخرين، ولتحقيق مصالحها الوطنية هي، قبل حماية المصالح الأمريكية.