الصباح اليمني_ثقافة وهوية|
تتصارع ثلاث روايات عن مكان المعركة الفاصلة التي أجبرت الرومان على الانسحاب فهناك من يرى أنها كانت في نجران ورأي آخر أنها حدثت في الجوف وأما الرأي الثالث وقد يكون الأرجح فيقول إن المعركة كانت في مأرب .
وكيفما كان الأمر فإننا نرى أنه لا يوجد أي تناقض بين جميع تلك الروايات سيما الأولى والثانية وذلك للتلاصق الجغرافي بين نجران والجوف فعلى ما يبدو أن الجيش الروماني تمكن من اختراق منطقة نجران المعروفة لدينا اليوم ووصل إلى الجوف (التي لم تكن تسمى وقتها بالجوف)وفيها حدثت أول معركة مع الرومان وهذا ما يتفق مع الكتابات الرومانية ومنها ما سطره المؤرخ استرابون الذي تحدث عن موقع المعركة وحددها على أنها كانت عند نهر ما بين نجران ونشق(ذكرت نشق في أحد النقوش القديمة إلى جوار نشان التي كانت مدينة عامرة في ذلك الوقت ولا تزال خرائبها معروفة بالسوداء في العربية السعيدة ج2 ص 54)، ورجح بعض المؤرخين أن تكون تلك المعركة قد حدثت في منطقة نهر الخارد(المفصل ج3 ص50)وهي منطقة معروفة اليوم لدى أبناء الجوف ومما لا شكل فيه أن الحملة لاقت مقاومة يمنية أجبرت الرومان على الانسحاب من كافة المناطق التي سيطروا عليها (حنان عيسى جاسم السياسة الرومانية تجاه جنوب الجزيرة العربية مجلة الدراسات التاريخية العدد 17–يونيو 2013م ص 334).
ولعل عدم تطرق النقوش المكتشفة لتلك المعركة مع الرومان هو ما دفع بعض المؤرخين إلى الأخذ بما ورد في الكتابات الكلاسيكية الرومانية وتجاهل حقائق يمكن التوصل إليها من خلال قراءة تلك المرحلة فهناك نقوش تعود إلى ذلك الوقت تشير إلى تحركات عسكرية واقتصادية وزراعية ناهيك من أن اليمنيين لا يمكن لهم بأي حال من الأحوال أن يسمحوا لأي جيش خارجي أن يصل إلى مركز مهم من مراكزهم الحضارية في ذلك الوقت كمأرب.
وعلى ما يبدو أن النقوش التي تتحدث عن تلك الفترة لم تكتشف حتى اللحظة أو تعرضت للهدم والتخريب فالكثير من النقوش والآثار استخدمها الأهالي في مأرب والجوف بأعمال البناء إضافة إلى ما تعرضت له الثروة التاريخية لليمن من نهب منظم خلال الأربعة قرون الماضية من خلال الفرق الاستكشافية التي زارت شبوة ومأرب والجوف ومناطق يمنية أخرى أو من خلال اليمنيين الذين كانوا يجهلون أهمية تلك الآثار فسهلوا للأجانب تهريبها وقاموا ببيعها وبأثمان بخسة (للمزيد انظر مؤلفات لرحالة عرب وأجانب قدموا إلى اليمن خلال القرون الأربعة الماضية ) ويذكر المؤرخ الواسعي حجم عمليات النهب والبيع والتهريب للآثار اليمنية خلال القرن التاسع عشر فقد وصل إلى اليمن وقتها العديد من الباحثين والتجار من جنسيات مختلفة ففي عام 1843م وصل أحد الفرنسيين الذي تمكن من نقل 56 لوحاً ويضيف الواسعي (ثم بعثت وزارة المعارف بباريس يوسف هالي في سنة 1869 إلى اليمن ورجع ومعه 680 لوحاً وهكذا كل سايح يأخذ جملة من الألواح المنقوشة غير ما يدخل عرب الجوف إلى عدن كل سنة جملة من الألواح)(تاريخ اليمن فرجة الهموم والحزن في حوادث تاريخ اليمن عبد الواسع الواسعي اليماني ص 30-31).
وإضافة إلى عمليات التهريب التي استمرت حتى ثمانينات القرن الماضي بوتيرة متسارعة وبرعاية من مراكز نفوذ مرتبطة بالسلطة ولا تزال مستمرة حتى اليوم فهناك إهمال تعرضت له تلك الآثار والنقوش خلال القرون الماضية وهنا نتطرق إلى ما ذكره أحد المتخصصين العرب الذين تمكنوا من زيارة مأرب في النصف الأول من القرن العشرين وهو الباحث الدكتور أحمد فخري والذي يقول : إن الأحجار المكتوبة أهم مصدر للتاريخ اليمني القديم وكان المثل الذي ضربه عمال مأرب باعثاً للأهالي على تقليدهم فأخذوا بدورهم يحطمون الآثار القائمة ليبنوا منازلهم ويأخذوا الأحجار المكتوبة فيكسرونها إلى قطع صغيرة لاستخدامها في البناء(اليمن ماضيها وحاضرها الدكتور أحمد فخري ص 22) ويضيف ما عثرت عليه البعثة الأمريكية عام 1951م أخذ يكسره الأطفال الرعاة لا لشيء إلا حبا في العبث بل وصل الأمر إلى أن القاعدة النحاسية المكتوبة التي عثرت عليها البعثة أخذ بعض الناس في تحطيمها لأخذ معدنها (اليمن ماضيها وحاضرها الدكتور أحمد فخري ص 22) ويقول المؤرخ جواد علي عن قضية عدم وجود نقوش يمنية تتحدث عن الحملة الرومانية بالقول : وما عثرنا عليه هو شيء يسير بالقياس إلى ما قد يعثر عليه في المستقبل، ولا سيما إذا ما علمنا أن هذه المساند إنما عثر عليها على ظاهر الأرض، وأن العلماء لم يقوموا بحفريات علمية في أعماق الأرض، ولنا وطيد الأمل بالعثور على كتابات كثيرة مطمورة تحت الأنقاض، قد تأتي لنا بوثائق خطيرة عن تأريخ العرب الجنوبيين، ويضيف : لقد ظن «هاليفي» أن الحظ سيسعده في أثناء سفره إلى اليمن، فيظفره بآثار تشير إلى تلك الحملة الرومانية المخففة، غير أن الحظ لم يحالفه، ولم يكتب له التوفيق. كذلك لم يكن الحظ حليفًا لـ «فلبي» ولا لغيره من السائحين2.
فلم يستطع أحد منهم حتى الآن الاهتداء إلى كتابة عربية أو أعجمية أو أثر يشير إلى تلك الحملة المشؤومة حملة الرومان (المفصل ج 3 ص 58)
وصول الجيش الغازي إلى مأرب :
خلاصة الجدل بشأن مسار الجيش الروماني، وهل وصل إلى مأرب أم لا وهل فشلت الحملة بفعل الهزيمة العسكرية على أيدي اليمنيين أم لأسباب أخرى، فإن أغلب المصادر التاريخية المعتمدة تكاد تتفق أن الجيش الروماني توغل في الجوف ودارت معركة ضارية في تلك المنطقة ولعل ما يؤكد ذلك هو ما كتبه المؤرخ أسترابون نفسه الذي أشار إلى وجود الآلاف من اليمنيين كانوا قد استعدوا واحتشدوا لمواجهة الغزو الروماني (رغم تعمده تحريف تفاصيل المعركة ليظهر جيشه منتصراً وبشكل غير منطقي وغير معقول) لكنه في نهاية الأمر كشف لنا عن مقاومة يمنية قبل أن يصل الجيش الغازي إلى هدفه وكل ذلك يعني أن اليمنيين كانوا على استعداد لمواجهة الغزاة وأعدوا العدة للمواجهة والتصدي ، وفي محاولة معرفة تفاصيل المعارك فيمكن العودة إلى معرفة الأسلحة اليمنية التي كانت مستخدمة في تلك الفترة ولعل ما يدحض ادعاءات استرابون عند تطرقه إلى تفاصيل تلك المعركة أن اليمنيين كانوا في تلك الفترة يمتلكون أنواعاً مختلفة من الأسلحة وما تطرق له استرابون يعد في تلك الفترة من الأسلحة البدائية فقد كانت العسكرية اليمنية قد حققت حضوراً متميزاً من خلال الصناعات الحربية في ذلك الوقت حتى اشتهرت اليمن بصناعة السيوف وبابتكار آلات حربية لاقتحام القلاع والحصون وتدمير التحصينات.
وإذا ما سلمنا بأن المعركة الفاصلة حدثت في الجوف فكيف وصلت بعد ذلك إلى مأرب ؟
والتفسير المنطقي لذلك هو أن الجيش الروماني تعرض لخسائر كبيرة في الجوف غير أنه لم يتعرض لهزيمة ساحقة أجبرته على التراجع والانسحاب ولهذا نجد أنه وصل إلى مأرب بحسب الكتابات الرومانية وما أرخه استرابون نفسه، فبعد معركة الجوف واصل الرومان طريقهم إلى مأرب وبما أنهم تعرضوا لمقاومة في الجوف فبالتأكيد أن كافة المناطق الواقعة على طريق الجيش الغازي قاومت بوسائل مختلفة كالهجمات من قبل القبائل المتحصنة في المرتفعات والكهوف وهذا أدى إلى إنهاك الجيش الغازي لكنه لم يهزم إلا على أسوار مأرب.
وهنا نضع القارئ الكريم أمام عدة حقائق :
الحقيقة الأولى : أن مأرب كانت من أهم التجمعات السكانية في اليمن بل كانت العاصمة لفترات طويلة وباعتبارها كذلك فقد اهتم الملوك والقائمون عليها بتحصينها من كل الأخطار سواء الداخلية أو الخارجية ثم إن اعتراف الرومان بأن جيشهم حاصر مأرب ستة أيام يؤكد على أنه لم يتمكن من إسقاطها كما فعل مع نجران وأن حصار المدينة من قبل الغزاة يعني أن من هم داخل المدينة يرفضون تسليمها ويقاومون محاولات احتلالها ، وبما أن هناك مقاومة ناتجة عن رفض التسليم فإن تقهقر الجيش الروماني لم يكن نتيجة قرار اعتباطي أصدره القائد بالانسحاب بل كان نتيجة سبب قاهر وهذا السبب لا يمكن أن يكون غير المقاومة فمن غير المنطقي أن الجيش الروماني وخلال فترة حصاره لمأرب سيقف مكتوف الأيدي منتظراً استسلام المدينة بل كان يحاول اقتحامها بالقوة وقد فشل في ذلك أي أن المعارك نشبت بين المدافعين عن المدينة وبين الغزاة الرومان الذين انسحبوا بسبب الهزيمة الساحقة الذي تعرضوا لها.
وإذا ما عدنا إلى الوضع السياسي في اليمن وقتها فقد كانت سبأ ليست بتلك الدرجة من الضعف والوهن حتى تعجز عن التصدي للجيش الروماني بل إن تحالفها مع حضرموت لم يكن لغرض الخلاف مع الريدانيين الحميريين وحسب بل ومواجهة أي أخطار أخرى الأمر الذي يشير إلى أن حضرموت قدمت الدعم للسبئيين في التصدي للجيش الغازي ودحره حتى أن ذلك الجيش تاه في الطرقات وتفرق وفقد الجنود قائدهم ومرشدهم (شارل سان برو -العربية السعيدة ص 24) الذي كان سيدلهم على طريق العودة ، ومن المضحك أن المؤرخ استرابون برر انسحاب الجيش الرومان الذي كان يحاصر مأرب بعدم توافر المياه فكيف تشح المياه في منطقة كانت تعرف بأنها أغنى المناطق بالمياه نظراً لوجود السد الذي لا يبعد كثيراً عن المدينة ثم إذا كان الجيش الروماني قد سحق اليمنيين فلماذا لم يدخل مدينة مأرب للحصول على المياه ولماذا لم يقم أهل مأرب بتزويده بالماء لكن على ما يبدو أن تحصينات المدينة وقوة المدافعين عنها أجبرت الرومان على الاندحار فلا يمكن لليمنيين أن يتركوا مأرب بلا تحصينات قوية أو يتركوها دون حامية عسكرية تدافع عنها وكانت وقتها مركزاً حضارياً مهماً وفيها نشاط تجاري وديني كبيرين وبالتأكيد أن النقوش تعرضت لتلك الحادثة الخطيرة غير أنها لا تزال مطمورة ولم تكتشف بعد أو تكون ضمن الآثار التي تعرضت للتدمير أو النهب خلال المراحل الزمنية المختلفة .
المقاومة اليمنية للغزاة :
لا تزال الذاكرة الشعبية اليمنية تحتفظ ببعض الأحداث والمواقع والأماكن المتعلقة بالحملة الرومانية فمنطقة غيل الخارد في الجوف شهدت المعركة العنيفة بين المقاومة اليمنية والحملة الرومانية الغازية وعلى ما يبدو أن المقاومة اليمنية لم تتصاعد إلا بعد أن كان الرومان قد توغلوا أكثر في مناطق الجوف فقد أراد اليمنيون جر القوة الرومانية إلى مناطق يسهل عليهم استهدافها فقبل أن يصل الغزاة إلى مأرب تحصن اليمنيون في الجبال وقاموا بنصب الكمائن لاستنزاف الرومان مما ساعدهم في تحقيق الانتصار الحاسم حتى قيل إن أعدادا قليلة من هذا الجيش استطاعت النجاة من هذه المذبحة فقرروا الفرار بصحبة قائدهم الذي لقي حكماً بالإعدام في مصر (د. صادق عبده علي -الهوية ص 134)وإضافة إلى ما كتبه الرومان أنفسهم عن وجود مقاومة لجيشهم فإن حديثهم عن أسر عدد من اليمنيين يضيف لنا دليلاً آخر على ما نحاول تأكيده ،فها هو استرابون يتحدث عن معرفة أراضي البخور وذلك من خلال ما أدلى به عدد من الأسرى اليمنيين الذين تعرضوا للاستجواب من قبل الرومان.
وعن وسائل اليمنيين في مقاومة الغزو الروماني تذكر بعض الروايات (نقلها عدد من المؤرخين في مؤلفاتهم منهم د. عبد الله حسن الشيبه – دراسات في تاريخ اليمن القديم ص 21 – 23 ود. صادق عبده علي- الهوية ص 134) أن اليمنيين ومن خلال مقاومة الغزو الروماني كانوا السباقين إلى استخدام أسلوب الأرض المحروقة وذلك الأسلوب لم يعرف من قبل في حروب تلك الفترة فقد كان اليمنيون في مناطق نجران والجوف ومأرب وقبل أن ينسحبوا من القرى والمدن والقلاع يقومون بردم الآبار وهدم القلاع وتدمير كل ما يمكن أن يستفيد منه الغازي وكانوا يقومون بحرق المنازل والمزارع أي إحراق الأخضر واليابس ، وقد تمكنت المقاومة الشديدة من إلحاق خسائر فادحة في صفوف الجيش الغازي وسطرت أول انتصار لليمنيين في وجه أول قوة غازية تحاول احتلال بلدهم وتتوغل إلى مراكزهم الرئيسية وفي ذلك يقول المؤرخ د. صادق عبده علي : ومما لا يمكن التشكيك فيه أن الحملة لاقت مقاومة شديدة اضطر معها ايليوسجاليوس أن يقفل راجعاً بعد أن حاصر مأرب ستة أيام ويدعي الرومان أن سبب فشلهم يرجع لعامل المناخ والواقع أن مقاومة اليمنيين هي السبب الرئيس لعدم نجاحهم في إخضاع البلاد وهكذا نجت اليمن من الحكم الروماني ( الهوية السياسية والحضارية لليمن في التاريخ القديم وعصر الإسلامي صادق عبده علي ص 133)
خليك معناالمصدر: كتاب اليمن مقبرة للغزاة للباحث عبدالله بن عامر