| د. وفيق إبراهيم|
المحور الأميركي الخليجي لم يخرج أصلاً من الاستعمال الدائم لأسلوب تسعير الفتن المذهبية والطائفية في العالم الإسلامي، لكنّه جسّدها في خط إرهابي «معسكر» دعمه إلى حدود بناء دولة «إسلاموية إرهابية»، لها حدودها وإداراتها وخلاياها القاتلة في معظم بلدان الأرض.
لذلك أولت السياسات الأميركية التركية الخليجية ومعها «الإسرائيلية» للجانب العسكري من الإرهاب، معظم الاهتمامات العسكرية والإعلامية والتدريبية والتمويلية، من دون أن تنسى الفتنة السنّية الشيعية، فكانت تستحضرها في «حشراتها» السياسية والعسكرية.
الواضح اليوم أنّ الجانب العسكري من الإرهاب بدأ يتقلّص إلى حدود الانهيار من أعالي حلب إلى أم الربيعين في الموصل، مروراً بعرسال لبنان. الأمر الذي يدفع إلى التساؤل عن مضامين الخطط الجديدة للمستثمرين في تنظيمات التكفير، في ضوء العجز الغربي الخليجي عن إعادة إحياء الإرهاب كمنظمات عسكرية كبيرة. وهذا لا يمنع من دعمها كخلايا منتشرة إسلامياً وعربياً ودولياً، ولها القدرة على الضرب عند الطلب والحاجة من المستثمِر عبر المشغِّل.
يبدو إذن أنّ تقديم استخدام الفتن المذهبية يجنح إلى أن يصبح أولوية، نتيجة لانكفاء الجانب العسكري عند التكفيريين. وهذا سلاح فتّاك لا يقلّ دمويّة وإرهاباً عن الجانب العسكري، خصوصاً أنّ استعماله مسنود بآليّات دعم مالية وإعلامية وسياسية مع تغطيات دولية وخليجية وتركية. فواشنطن تعتبر أنّها مُنيت بهزيمة أمام مشروع روسي للعودة إلى العالم عبر سورية، ومشروع إيراني يقاوم النفوذ الأميركي في العالم الإسلامي، ودولة سوريّة تدافع عن المشرق العربي، إلى جانب العراق المنتفض على مشاريع تقسيمه كادت السياسة الأميركية أن تجعلها قدراً عصيّاً له لولا بطولات الجيش العراقي والحشد الشعبي.
أمّا حزب الله، فله في الأذهان صور أولئك المجاهدين الشهداء التاريخيين، الذين آمنوا أنّ طريق التحرير يمرّ عبر فوّهة بندقية تخصّصت في قتال «إسرائيل» والإرهاب في كل مكان وناحية.
وبانتظار التمكّن من تشكيل آليات جديدة لإجهاض تقدّم محور المقاومة والطرف الروسي، ليس لدى واشنطن إلا تفعيل الفتنة السنّية الشيعية سلاحاً ماضياً في التفتيت، وحائلاً دون إنجاز وحدة اجتماعية ووطنيّة فعلية. وما يساعد واشنطن على حركتها القديمة الجديدة، هو وجود قوى سياسيّة متشكّلة سلفاً لها خبرات في الفتن المذهبيّة على مستوى المنطقة المستهدفة، أي لبنان وسورية والعراق ودول الخليج واليمن.
لقد بدأت القوى اللبنانية والموجودة على أراضيه التي تشارك أو تستثمر في الإرهاب، تخطّط لمرحلة «ما بعد عرسال»، تضمّ هذه القوى أحزاب المستقبل وروافدها الدينية المحسوبة على السعودية والإخوان الأتراك الهوى، والمتحدّرين من «القاعدة» في الجماعات الدينية في شمال لبنان والبقاع ومخيمات الفلسطينيين والسوريين، إلى جانب القوات اللبنانية الذي «يلعب» بالفتنة السنّية الشيعية لمصلحة «إسرائيل»، وعبر التحالف مع «المستقبل». هناك قوى سياسية أخرى تحرّكت في هذه الفتنة، إنما لمصلحة تحسين مواقعها في النظام الطائفي اللبناني.
أمّا في سورية، فالوضع مختلف.. لأنّ مشروع الدولة الوطنية يمتلك جغرافيا كبيرة خاصة به، يستحيل اللعب فيها، لذلك فإنّ سلاح الإعلام هو الذي يعوّل عليه آل سعود والأميركيون لزعزعة الاستقرار السياسي.
لجهة العراق، فقواه متشابكة، ما يشجّع الأميركيين والأتراك على إسناد مجموعات سياسية موالية لهم في العراق لزعزعة القرار السياسي العراقي بالمزاعم والاختلافات، والدعوة إلى التقسيم المذهبي…
ومن المنتظر اشتداد وحدة الدعوة إلى التقسيم في اليمن بذرائع مذهبية زيود وشافعيّون ، وتاريخية شمال جنوب . وأسلحة آل سعود وأميركا هي الحرب السعودية العالمية على اليمن وسلاح الإعلام. هذه هي المعطيات المتسارعة التي تجعل من زيارة رئيس الحكومة اللبنانية وقائد تيار المستقبل السعودي الهوى إلى واشنطن واضحة في مراميها: التشجيع على تدابير ضدّ حزب الله لا تؤذي دور حزب «المستقبل» في قيادة الحملة السنّية على الشيعة.
إلى جانب هذه المؤشرات، تتردّد معلومات أمنيّة عن انتشار خلايا إرهابية في معظم البلدان المستهدفة، بالإضافة إلى أفغانستان وباكستان. وأهدافها هذه المرّة ليست الإساءة إلى الأنظمة السياسية فقط، بقدر ما ترمي إلى التفكيك الاجتماعي بين سنّة وشيعة، لتصيب بشظاياها المشرق العربي، أي الهدف الأساسي للمشروع الأميركي المتجدّد.
الأهداف إذن محدّدة، وآليات التحرّك الجديدة واضحة وتجمع بين قوى حزبية طائفية وقبليّة وخلايا نائمة، مع تصعيد إعلامي مكشوف وغير مسبوق… قد تستمرّ هذه الخطة طويلاً حتى تنجح واشنطن بإعادة تركيز آليات عسكرية على شاكلة الكرد وبعض التنظيمات السوريّة والعراقية الصغيرة، ما يتيح لها العودة إلى الأنماط السابقة، أي انتشار مجموعات عسكريّة ضخمة تتستّر بالدين أو بأشكال قومية أو قبليّة لتؤدّي دور أدوات التفتيت والتدمير الجديدة.
وتعتبر السياسة الأميركية أنّ تحوّل المنطقة من النفط إلى الغاز، المتواكبة مع حاجات الصناعات الأميركية إلى مستهلكين تستلزم هذا النمط من حروب التدمير وإعادة التشكيل… فتزدهر الدول الغربية وتفتقر دول النفط والغاز كعادتها.
هذا ما تريده السياسة الأميركية، فكيف يرى مشروع المقاومة؟
النصر العسكري لا يُحصَّن إلا بالمشروع الوطني، أي الآلية الوحيدة التي تكبح جموح الفتن المذهبية والطائفية… وهذا أمر لا يغيب عن بال قادة المقاومة، الذين يجاهرون بإيمانهم بمشروع وطني على العدالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية بين الناس على اختلاف انتماءاتهم الطائفية والوطنيّة. أمّا ما يحمي المشروع الوطني في المرحلة الانتقالية، فهي بنادق المشروع المقاوم المطلوب أن تبقى على أهبّة الاستعداد للتعامل مع المستجدّات الأمنيّة والسياسيّة.
المطلوب عدم التراخي، لأنّ المقبل من التطوّرات قد يكون أصعب ممّا مضى. فتطهير بؤر الإرهاب في سورية والعراق لا يزال عملاً يتطلّب كبير الجهد، والخلايا النائمة بدأت تستيقظ في لبنان وغيره وتتطلّب جهوداً جبارة.
ويُنتظر أن تتواكب حملات تسعير الفتنة المذهبيّة مع اعتماد سياسات عدائيّة عالية المستوى ضدّ إيران، انطلاقاً من الخليج وصولاً إلى حدود التحرّش بها عسكرياً، والانقضاض الواسع على يمن يزداد صلابة وقوّة.
الأمر الذي يوضح أنّ المزج بين الجهاد العسكري والسياسي والإعلامي، إنّما هو الطريق إلى نصر مؤزّر يؤكّد على الربط الوطني والسياسي بين عرسال والموصل ومناطق أخرى قيد التحرير بنيران بنادق المقاومين. خليك معنا