الصباح اليمني_ثقافة وهوية|
قام ابن فضلان برحلته إلى بلاد روسيا، أثناء بعثته التي قادته إلى بلاد البلغار، فكانت في أواسط القرن العاشر الميلادي، أي قبل عهد الملك فلاديمير، وكان الروس آنئذ لم يعتنقوا المسيحية بعد.
رحلة ابن فضلان إلى بلاد روسيا:
ويذهب “كريكتون” Micheal Crichton وأغلب المستشرقون الغربيون إلى أن ابن فضلان أطلق اسم روسية / الصقلبية على السكان الذين التقاهم في بلاد الروس الحالية، ولكن هؤلاء الروس هم اسم قبيلة اسكندنافية، لذلك سماهم كريكتون في تحقيقه لرسالة ابن فضلان بـ(Northmon) النورديين، أو أهل الشمال، وهو يخالف رأي المستشرقين الروس الذين يعتقدون أنهم قبائل روسية أصلية السلوك الفردي والاجتماعي.
لا يختلف أسلوب ابن فضلان في تناوله للروس عن تقريره الخاص بحالة شعب البلغار، فهو لا يكتفي بالوصف السطحي للواجهة السياسية، بل يغوص لينقل لنا وصفًا إثنوغرافيًا عن أساليب حياتهم المعاشية والدينية، وسلوكهم الاجتماعي والثقافي؛ فجمع لنا -حسب ميكيل- صورة نادرة عن هذه الأمة الغامضة والنائية، قبل أن تنتقل إلى المسيحية.
وهو يأخذ كل جانب من جوانب حياتهم الاجتماعية والثقافية على حدة ليصدر حكمه عليه استنادًا إلى المقاييس القيمية التي اكتنزها، فهناك الجانب الذي يثير الإعجاب، وجانب يثير منه الاستغراب أو الاستهجان، فلكل جماعة بشرية حسب مفاهيمه مواقعها المنيرة وجوانبها المظلمة، فهو يصف بإعجاب “لم أر أتم أبدانًا منهم كأنهم النخل، شقر حمر، مع كل واحد منهم فأس وسيف وسكين لا يفارقه، وسيوفهم صفائح مشطبة إفرنجيـة”.
ثم يراقب بدقة سلوكهم وعاداتهم، وأحيانًا يصف ذلك بحيادية، فيها نوع من الاستغراب، فهو رآهم ينزلون بتجارتهم على نهر آتل (الفولغا) لا يلبسون القراقط، ولا الخفاتين، ولكن يلبس الرجل منهم كساء يستر به أحد طرفي جسمه، ويخرج إحدى يديه منه، والواحد منهم ينقش جسمه من ظفر رجله إلى رقبته صور مخضرة بالشجر وغير ذلك، وتضع المرأة على ثدييها حقة (وعاء) مشدودة من حديد أو فضة أو نحاس أو ذهب، على قدر مال زوجها، وعلى عنقها أطواق من ذهب وفضة، يرتبط عددها بحجم ثروة زوجها، وأجلَّ الحلي عندهم الخرز الأخضر من الخزف.
لكنه أحيانًا، يصدَم بسلوكهم الاجتماعي، ولا سيما فيما يخصُّ العلاقة بين الجنسين، حيث يختفي التستر و”العفة” من جهة، وهو سلوك خاص بمجتمعه الثقافي – الديني، أو ما يخص النظافة و”الطهارة”، وما اعتاده من طقس إسلامي بهذا الخصوص، ففي البيت الواحد يجتمع عشرة أو عشرون شخصًا، لكل واحد منهم سرير يجلس عليه، ومعهم رفيقاتهم الجميلات، فينكح الواحد منهم جاريته، ورفيقه ينظر إليه، وربما يدخل عليهم تاجر فيصادف أحدهم ينكح جاريته “فلا يزول عنها حتى يقضي أربه”، ويعبر عن صدمته لخروجهم عن طقس “الطهر” والنظافة الإسلاميين بقوله: “وهم أقذر خلق الله، لا يستنجون من غائط أو بول، ولا يغتسلون من جنابة، ولا يغسلون أيديهم من الطعام، بل هم كالحمير الضالة، يجيئون من بلدهم فيرسون سفنهم بآتل، وهو نهر كبير، ويبنون على شطه بيوتًا كبارًا من الخشب”.
ويصف بتقزز عاداتهم اليومية بغسل وجوههم ورؤوسهم بأقذر ماء، إذ تأتيهم الجارية بالغداة بقصعة كبيرة فيها ماء، فتناوله لسيدها فيغسل منها يديه ووجهه وشعر رأسه، ثم يتمخط ويبصق فيها، ثم تحمل الجارية القصعة إلى الذي يليه، وهكذا حتى تديرها على جميع من في البيت.
أولًا: الدين والسلطة:
يلاحظ ابن فضلان أن ديانتهم ترتبط بمعاشهم وبحاجاتهم الاجتماعية، وبتلبية هذه الحاجات، فعندما يرسون بسفنهم على شاطئ نهر آتل، يأتون بها ببضائعهم للإتجار بها، جواري وسمور؛ فيخرجون ومع كل واحد منهم خبز ولحم وبصل ونبيذ، يتجهون إلى خشبة منصوبة لها وجه يشبه الإنسان، وحولها صور صغار، وخلف تلك الخشبة خشبة طويلة أخرى تنصب في الأرض، هي مقدسة عندهم، فيأتي تاجرهم إلى الصورة الكبيرة ويسجد ويتضرع لها، علّها تسهّل له أمر بيعه لتجارته، فيقول لها: “يا ربِّ قد جئت من بلد بعيد، ومعي من الجواري كذا وكذا رأسًا، ومن السمور كذا وكذا جلدًا”، فيذكر جميع ما عنده من تجارة، ثم يقول: “وجئتك بهذه الهدية”، فيترك هديته لها وينصرف، فإن تعذرت تجارته أعاد الطقس نفسه وقدَّم هدايا أخرى، فيعمد إلى ذبح غنم وبقر ويطرحها على الخشبة الكبيرة والصغار التي حولها، فإذا أتت الكلاب عليها في الليل، يقول: “قد رضي ربي عني وأكل هديتي”.
ولفت ابن فضلان النظر إلى عقوباتهم المعتمدة في تقاضيهم، فهم يجازون السارق بنصبه على شجرة غليظة، وبشده من عنقه بحبل يعلقوه فيها، حتى يتقطع بفعل الرياح والأمطار. وإذا مرض الواحد منهم نصبوا له خيمة، وتركوا معه خبرًا وماءً، لا يقربوه ولا يكلموه، فإذا برئ رجع إليهم، وإن مات أحرقوه، وإذا كان مملوكًا تركوه للكلاب وجوارح الطير.
ويغلب على الصورة التي يقدمها ابن فضلان عنهم، لون البداوة، وحياة الحرب والقسوة، والتخفف من قيود الحشمة والتعفف فيما يتعلق بعلاقتهم بالنساء، فملك الروس يحتفظ بجواره دائمًا بأربعمائة رجل من صناديد أصحابه، وأهل ثقة عنده “ومع كل واحد جارية تخدمه وجارية أخرى يطؤها، يجلسون تحت سرير سيدهم، المرصع بنفيس الجواهر، ويجلس مع الملك على تخته أربعون جارية لفراشه، وربما وطئ الواحدة منهن بحضرة أصحابه؛ وهو لا ينزل عن سريره، حتى أنه يقضي حاجته في طشت يقدَّم إليه، وله خليفة يقود الجيش ويحارب الأعداء ويخلفه في رعيته”.
ثانيًا: طقس الدفن:
يعرض ابن فضلان في صفحات مطولة مشاهد الدفن، التي تبدو أنها أثارت لديه انفعالات متضاربة، ففي هذه المشاهد من الغرابة والألم والسمو واللامعقول والدلالات الغريبة، التي تبدو برمتها غير مألوفة لديه، لدرجة الصدمة.
لقد سمع أن الروس يفعلون بملوكهم عند الموت أمورًا غريبة بما فيها الحرق، فأراد أن يكون شاهدًا مباشرًا على وقائع دفن أحد الموتى من رجالهم الأجلاء، كما حرص أن يدوّن لنا المشاهد بكل تفاصيلها، فامتزج في وصفه الإحساس العميق بأن مشهدًا أسطوريًا أليمًا وجليلًا يحدث أمامه مباشرة بمشاعر الاستغراب والتعاطف والأسى.
فمن عاداتهم أن يضعوا الرجل الفقير الميت في سفينة صغيرة ويحرقونها، أما الرجل الغني فيقسمون ثروته، فثلثها لأهله وثلثها يخيطون له بها ثيابًا وثلث للنبيذ الذي يشربونه يوم تقتل جاريته نفسها وتموت مع مولاها، فأراد ابن فضلان أن يقف على إحدى تلك الحالات، فلما مات رجل جليل وضعوه في قبره حتى يخيطون له ثيابه، وسألوا جواريه: من يموت معه؟ فتقدمت إحداهن، فوكلوا لها جاريتين لتهيئانها لهذا الحدث الجليل؛ ويقضون هذه الفترة بشرب النبيذ ليلًا ونهارًا، وربما مات الواحد منهم والقدح بين يديه.
فلما كان اليوم الذي يُحرق فيه الميت والجارية حضر ابن فضلان إلى النهر حيث السفينة التي يتم فيها الحرق، فجاءوا بسرير فوضعوه على السفينة وغشّوه بالمضرَّجات (المساند) والديباج الرومي ومساند الديباج الرومي، وتولَّت امرأة عجوز تُسمى ملك الموت أمر فرش السرير، وأحضروا الميت من القبر إلى السفينة، وألبسوه ثيابه الجديدة، وأدخلوه القبة التي في السفينة، وأجلسوه على المساند وبجانبه النبيذ والفواكه والريحان، وخبز ولحم وبصل طرحوه بين يديه، وبسلاحه، وبدابتين وبقرتين وديكًا ودجاجة قطعوها وألقوا بلحمها على السفينة.
والجارية التي نذرت نفسها للموت معه تذهب وتجيء وتنتقل من قبة إلى قبة، حيث يضاجعها الرجال ويقولون لها: “قولي لمولاك إنما فعلت هذا من محبتك”، فينصهر الفعل الجنسي بالموت بحضور الرغبة بالخلود.
فلا يتوقف ابن فضلان عن تعقب التفاصيل، فيأتون بالجارية ويحملونها على أكفهم حتى تشرف على باب السفينة ثلاث مرات، فتقول في المرة الأولى: هو ذا أبي وأمي، وفي الثانية: أرى جميع قرابتي الموتى قعودًا، وفي الثالثة: هو ذا أرى سيدي قاعدًا في الجنة، وهو إشارة إلى تساميها على رماد الحياة إلى الخلود والحضور في جنة الخلود حيث تلتقي بسيدها، فمرّوا بها إلى السفينة، ثم يأتي دور المرأة العجوز، التي تلعب، حسب وصف ابن فضلان، دور العراف والشامان المقدس، والتي تسمى ملك الموت والمكلفة بقتل الجارية، فتدفعها إلى السفينة، وتدفع إليها قدحًا من النبيذ، فتغني وتشربه، بعدها تدخِلها إلى القبة التي فيها سيدها، وهناك يدخل ستة رجال، فيجامعوا الجارية ويضجعونها إلى جانب مولاها، وتجعل العجوز في عنق الجارية حبلًا تدفعه إلى اثنين من الرجال ليجذباه، ثم تقبل ومعها خنجر فتدخله في أضلاعها حتى تموت، والرجال في الخارج يضربون على التراس ليحدثوا ضجيجًا يمنع سماع صوتها، ثم ينتهي المشهد المذهل والمروع بإشعال السفينة من قبل أقرب الناس إلى الميت، ثم يبادر الجميع بإلقاء الخشب المَحرَق، فتأخذ النار في الحطب ثم السفينة ثم القبة والرجل والجارية وجميع ما فيها، ثم بنوا على موضع السفينة، ونصبوا في وسط البناء خشبة كبيرة، كتبوا عليها اسم الرجل واسم ملك الروس وانصرفوا.
هذه رواية شاهد عيان حية، يلاحظ المؤرخ وجود عادة الدفن والحرق المتبعة لدى الروس القدماء وعند الصقالبة والأتراك أيضًا، وربما جاءت عادة السفينة من العالم الاسكندنافي، وتذكِّر الموكبات الموسيقية بعادات سويدية أو صقلبية؛ أما موت المرأة الإجباري فشائع عند أمم عديدة مثل الأسقونيين والأتراك والمغول والبلغار والجرمانية والصقالبة؛ ويُعرف دفن الميت جالسًا في آسيا الوسطى؛ أما دفن أغراضه معه فشائع عند الصقالبة والبلغار والأتراك، وقد يشابه ملكة الموت عندهم آلهة الموت الجرمانية هيل.
لقد امتزج في وصف ابن فضلان لهذا الحدث الجليل، الإحساس بمرارة ومأساوية الحدث الذي تبدى أمامه بالتعاطف، وأيضًا بالدهشة والغرابة، فنحن هنا أمام ارتطام مرجعيتين ثقافيتين لا تلتقيان إلا بتلك الرغبة بالخلود، والارتفاع عن اليومي إلى ذروة التعالي، وإن كان هنا يجري -حسب ابن فضلان الفقيه المسلم- بطريقة خاطئة، ولقد كان حاضرًا في وجدانه أثناء وصفه للمشهد، هذا الافتراق في القيم والمرجعيات التي تؤسسها، فلا ينسى أمام وقوفه عند تفاصيل الموت أن يتذكّر ما جرى من حوار بينه وبين أحد الروس، عن طريق المترجم، وهم ينظرون إلى السفينة وهي تحترق، إذ قال له الروسي: “أنتم يا معشر العرب حمقى”، فقال ابن فضلان: لم ذلك؟ قال الروسي: “إنكم تعمدون إلى أحب الناس إليكم وأكرمهم عليكم فتطرحونه في التراب، وتأكله التراب والهوام والدود، ونحن نحرقه بالنار في لحظة فيدخل الجنة من وقته وساعته”، وضحك ذاك الروسي ضحكًا مفرطًا، فسأله ابن فضلان عن السبب، فقال: “من محبة ربه له (يقصد الميت) قد بعث الريح حتى تأخذه في ساعته”.
ولكن هذا الحوار بالتأكيد لم يقرِّب أسس الفهم بينهما، لذا كان الروسي مبتهجًا لحدوث التعالي أمامه، بينما كان ابن فضلان كدرًا مهتزًا في أعماقه لمشهد بدا له مروعًا وأليمًا! الأول رأى في الحدث جسرًا للعبور إلى الأبدي، والثاني رأى فيه حدثًا تمتزج فيه القوة واللامعقول بالألم.
المصدر: موقع قصة الإسلام
خليك معنا