الصباح اليمني_مساحة حرة|
حينما يقول القادة الروس أن الغرب ينوي تفكيك الاتحاد الروسي على غرار الاتحاد السوفييتي، فهُم لا يبالغون بذلك..
هذا ما أشار إليه الرئيس بوتين شخصيا أكثر من مرّة.. وآخرها قبل نهاية العام 2022 حينما قال في مقابلة تلفزيونية أن الخصوم يسعون لتقسيم روسيا التاريخية.. وأن موسكو مستعدة للتفاوض مع كل الأطراف المعنية بشأن حلول مقبولة..
وفي آخر التصريحات لوزير الخارجية سيرجي لافروف، من بريتوريا، العاصمة الإدارية لجنوب أفريقيا، في 23 كانون ثاني 2023 ، قال لافروف: (الحرب في أوكرانيا هي حقيقية، وليست هجينة، وكانَ الغرب يستعدُّ لها لفترة طويلة ضد روسيا، في محاولة لتدمير كل شيء روسي من لغة إلى ثقافة..الخ..)..
وحينما يقول البعض أن الولايات المتحدة استفزّت بوتين كي يدخل هذه الحرب، فهُم لا يبالغون بذلك أيضا..
وطالما صرّح كبار المسؤولين الروس أنه لم يكُن من بُدٍّ أمام بوتين سوى خوض هذه الحرب..أي دخلها مُكرَها.. وهذا ما أرادهُ الغرب.. أي يُمكِن القول في ضوء ذلك أن أوكرانيا كانت بمثابة “الفخ”..
**
قرار دول الناتو الرئيسية (الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا وفرنسا) بتزويد أوكرانيا بأحدث ما أنتجتهُ مصانعها من دبّابات، إنما هو تصعيدٌ كبيرٌ لهذه الحرب.. ومواقف طرفي الصراع على نقيض كامل من بعضها بعضا..
ففي الوقت الذي تُطالِب به موسكو الاعتراف لها بالأقاليم الأربعة التي ضمّتها في شرق أوكرانيا، كي تنتهي الحرب، يُصِرُّ الطرف الآخر على الانسحاب الروسي الكامل من تلك الأقاليم، بل ومن جزيرة القرم، كي تنتهي الحرب.. والمطلبَان تعجيزيان.. ويجب أن يكون هناك حل وسط، وهذا يحتاج إلى العقلاء، ولكن يبدو هذا العالم وكأنهُ فرغَ من العقلاء..
**
الحرب الباردة تعود، ولكنها تبدو هذه المرّة ساخنة وليست باردة..
عُرِفِت الحُقبَة التي شهِدها العالم بعد الحرب العالمية الثانية بحُقبة “الحرب الباردة”.. وانتهت بنهاية الاتحاد السوفييتي..
وكان للتدخل العسكري السوفييتي في أفغانستان عام 1979 ، والاستنزاف الذي تعرضت له القوات السوفييتية، وانعكاسات ذلك على الاقتصاد السوفييتي، أثرٌ كبيرٌ على ذاك الانهيار..
واليوم يُراهِن الغرب على انخراط روسيا في الحرب بأوكرانيا، وإطالة أمدها واستنزاف اقتصاد روسيا وإضعافها، كمقدمة لتفكيك الاتحاد الروسي.. هذا ما يُصرِّحُ به قادة روسيا..
**
نهاية الحرب العالمية الثانية، كانت أيضا نهاية العصر الإمبراطوري البريطاني، وبداية عصر الهيمنة الأمريكية..
فقامت الولايات المتحدة بِجمعِ ممثلي خمسين دولة عام 1945 في سان فرانسيسكو، وتمّ وضع ميثاق الأمم المتحدة، بهدفِ الحفاظ على السِلم والأمن الدوليين وحماية حقوق الإنسان وتقديم المساعدات الإنسانية وتعزيز التنمية المُستدامة..
بدأت بعضوية 50 دولة، وهي اليوم 193 دولة..
وتمّ اعتماد هذا النظام العالمي الكارثي الذي ما زال مُهيمنا حتى اليوم، بإعطاء خمس دول حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن الدولي.. ولن يصلُح حال العالم إلا بإصلاح هذا النظام، وإلغاء حق الفيتو نهائيا، وإعطاء صلاحيات مجلس الأمن للجمعية العامة، وتُصبِحُ قراراتها، بديلا عن قرارات مجلس الأمن.. فالجمعية العامة هي برلمان دولي، ولِكل عضو فيها صوتا على قدم المساواة، مهما كان صغيرا أو كبيرا.. ويبقى مجلس الأمن بمثابة سُلطَة تنفيذية تُتابع وتُنفِّذ قرارات الجمعية العامة، ويكون مسؤولا أمامها..
**
كانت الحروب بالوكالة في كل مكان، بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي في زمن الحرب الباردة، وما رافقها من هيمنة وسيطرة وتوسُّع واغتيالات ومؤامرات وانقلابات وغزو واحتلال..
تأسس حلف الناتو عام 1949، ومن ثمّ حلف وارسو عام 1955، وامتلك الحِلفان السلاح النووي، الذي شكّل حالة من توازُن الرُعب.. وكانت هناك سياسة حافة الهاوية النووية خلال أزمة الصواريخ في كوبا عام 1962، والحرب الهندو صينية الأولى في (فيتنام) عامي 1945 و1946 للسيطرة على فيتنام الجنوبية بعد استسلام اليابان.. والصراع بالوكالة في أمريكا الوسطى، والجنوبية، والبحر الكاريبي، وآسيا الوسطى، وشرق آسيا، وأفريقيا، والشرق الأوسط، وأزمة السويس عام 1956، وحرب فيتنام الثانية من 1962 وحتى 1975 وتوحيد شطري فيتنام، بهزيمة الولايات المتحدة..
ثمّ الحرب بين فيتنام وكمبوديا أواخر السبعينيات، وحتى الغزو السوفييتي لأفغانستان في أواخر 1979، وهنا تجلّت الحرب الباردة في أشرسِ صورها وأشكالها، حيثُ وظّفت الولايات المتحدة الإسلام السياسي الأصولي المتمثّل بتنظيم القاعدة، وأنفقت ملياري دولار في عشر سنوات، على هذا التنظيم، تدريبا وتسليحا، وتمّ تدمير 995 مركبة مدرّعة سوفييتية، و 745 طائرة، ومصرع 15000 جندي سوفييتي، وخسارة الخزينة السوفييتية 96 مليار دولار، مما اضطرّ الزعيم السوفييتي ميخائيل غورباتشوف بوقفِ هذا الجرح النازف، والانسحاب من أفغانستان عام 1989..
وكان بعدها حل حلف وارسو في تموز/يوليو 1991، وتفكُّك الاتحاد السوفييتي في كانون أول/ديسمبر 1991 أيضا.. واستقلال كافة دول الاتحاد السوفييتي، لاسيما وقد سبقَ ذلك في شرق أوروبا انبثاق حركات مناهضة للسوفييت ومُعادية للشيوعية، وذات تطلعات وطنية، ومأخوذة بالنظام الديمقراطي البرلماني الغربي..
**
بقيت روسيا حوالي عشر سنوات تضمِّد جراحها، وتتحول إلى دولة رأسمالية وتندمجُ في النظام المصرفي الغربي، إلى أن وصل للسُلطة فلاديمير بوتين، مأخوذا بالتراث القيصري، والانتماء القومي الأرثوذكسي، وسعى لاستعادة أمجاد روسيا، ولم يتقبّل فكرة توسُّع حلف الناتو نحو الشرق قريبا من حدود بلاده، مُعتبرا ذلك استفزازا وتحدّيا، وخرقا للاتفاقات بين الطرفين، وللحيادية..
ولم يسعَد لِنموذج الديمقراطيات الغربية الليبرالية، واعتبر الديمقراطية وسيلة الغرب لسرقة موارد روسيا.. وركّزَ على البُعد الأوراسي.. فكان أخيرا ما كان في أوكرانيا..
**
تبدو أوكرانيا أنها بداية حرب باردة جديدة بين روسيا وبين الغرب، والتنافس واضحٌ بين روسيا وبين الولايات المتحدة وحلفائها، لاسيما في أفريقيا.. فروسيا تقول أن الولايات المتحدة تحرِّض الدول الأفريقية ضد روسيا، وفرنسا تقول أن روسيا تحرّض ضدها في بوركينا فاسو، وجمهورية مالي..
واشنطن استضافت قمة أمريكية افريقية، وروسيا تسعى لعقد قمة روسية أفريقية..
**
الحرب في أوكرانيا تشتدُّ أوزارها، وقد أوشكت على دخول عامها الثاني، فكيف ستُحسَم؟.
لا يعلم ذلك إلا الله في الوقت الراهن، ولكن الرئيس بوتين مُصمِّمٌ على تنفيذ كل أهدافهِ في أوكرانيا، والغرب مُصمِّمٌ على إفشاله بالكامل في أوكرانيا، هكذا هي تصريحات الطرفين.. وإطالة أمد الحرب ليس في مصلحة الجميع، وفي المقدمة روسيا، إذ أن العقوبات الغربية القاسية، وغير المتوقعة بهذا الحجم، ستؤثِّرُ كثيرا على روسيا.. واستغناء الغرب عن مصادر الطاقة الروسية، سيُزيدُ أيضا من هذه المصاعب.. فالدول الأوروبية سرعان ما أوجدت مصادر طاقة من دول بديلة، وصرّح كبار المسؤولين في الاتحاد الأوروبي منذ أيلول 2022، أن مستودعات تخزين الغاز في دول الاتحاد الأوروبي ممتلئة بالكامل، والبواخر تنتظر زمنا في مرافئ الغرب حتى يأتي دورها وتُفرغ حمولتها، ولديهم أكثر من الحاجة لمدة عام، ولذلك لم يعاني الأوروبيون من البرد كما كان متوقّعا..
وقد رأينا عملة اليورو ترتفع في الآونة الأخيرة حتى فاقت الدولار بعدة نقاط، بينما كانت قبل بضعة أشهر دون الدولار..
ومساعي اليمين الأوروبي للتحريض ضد الحكومات، والتظاهُر والاحتجاج، بسبب زيادة التضخم والأسعار، واجهتها الحكومات بالاستجابة لهذه المطالِب بِما يُرضي المُحتجِّين..
**
الغرب كلهُ يبدو اليوم يدا واحدة يشدُّ من أزرِ بعضهِ بعضا، ويعتبر الحرب في أوكرانيا حربهُ كلّه.. وحينما نتحدّثُ عن الغرب فهذا يعني أوروبا وأمريكا وكندا وأوستراليا ونيوزيلاندا واليابان وكوريا الجنوبية (ومن لفّ لفيفهم) أو ما ملكت أيمانهم.. وهذه لا تجدُ أي حرجٍ في دعم أوكرانيا بالسلاح والمال، وتُعلنُ ذلك على الملء، بينما يخشى أصدقاء روسيا من الإعلان عن أي دعم عسكري لروسيا خوفا من العقوبات الغربية..
والصين ثاني أكبر اقتصاد عالمي بعد الولايات المتحدة، هي شريك استراتيجي لروسيا، ولكن في مجال الطاقة التي تشتريها بأسعار أقل، وفي مجال الاقتصاد والتجارة والاستثمار، وليس في الحرب في أوكرانيا، حيث حرصت الصين جدّا عن النأي بنفسها في هذه الحرب..
**
الوضع مُعقّد، ويزدادُ تعقيدا بتزويد دول الناتو لأوكرانيا بالأسلحة الغربية الثقيلة، وإرسال ما تملكهُ من دبابات وطائرات روسية منذ زمن الاتحاد السوفييتي، إلى أوكرانيا، ويحتاج إلى معجزة للخروج منه وتجنيب العالم حربا نووية مُدمِّرة..
فهل ستحصل المُعجِزة، وكيف، بينما المواقف ما تزال متناقضة ومتباعدة جدا بين الطرفين، ففي الوقت الذي تعتبر فيه موسكو أن سلوك الغرب هذا يطيلُ أمد الحرب وعلى الغرب أن يتخلّى عن عقلية الهيمنة الاستعمارية، يُجادلُ قادة الغرب، أنه على العكس فتزويد أوكرانيا بالسلاح الثقيل يُقصِّرُ من أمد الحرب، إذ أنه يحدُّ من طموحات بوتين، ومن إيمانه بالنصر، ويجعلهُ يتّجه نحو المفاوضات التي لا يمكنهُ فيها فرض شروطه.. فأيّ وجهة نظر ستنتصر؟.
الزمن سوف يُجيبنا.. ولكن بكل الأحوال العالم كلهُ يدفع ثمن هذه الحرب، وخاصّة الدول الفقيرة.. ونتطلّعُ لنهايةٍ قريبةٍ لها.. وأن لا تتطور إلى مواجهَة مباشرة بين روسيا والناتو.. فحينها خطر استعمال النووي سيكون شبهُ مؤكّدا، إن شعر أي طرف أنهُ سيُهزَم..
كاتب سوري وزير مفوض دبلوماسي سابق
خليك معنا