حشرجة مصحوبة بغصة رشح عنها شعور فوري بالمذلة والهوان، تسبب بها مقطع فيديو يظهر انسحاب جميع طلاب قسم الدراسات السياسية في جامعه رينيه الفرنسية بباريس، قبل أيام، احتجاجاً على قدوم سفيرة إسرائيل لدى فرنسا، أليزا بن نون، إلى الجامعة لإلقاء محاضرة هناك.
ردة فعل لا إرادية، وكم من الحزن والوجع انتابني بعد مشاهدتي الطلاب وهم يسجلون ذلك الموقف الشجاع، معلنين بصوت واحد تضامنهم مع الشعب الفلسطيني، ومن أين؟ من وسط عاصمة الجمال والحياة والحرية، باريس.
منعت عقلي بقوة من محاولته إجراء مقارنة سريعة بين صمتنا المهين لما يتعرض له اليوم المسجد الأقصى من محاولات تهديم وتدمير، وبين أصوات طلاب باريس «الكفار» تتردد أصداؤها متجاوزة جدران القاعة، وصولاً إلى مآذن الأقصى المحاصر. نهرت عقلي لمقارنته ذلك بدموع آلاف الشباب العربي المسلم تُذرف حرى على أبواب استيديوهات برنامج «عرب أيدل»، تحسّراً على خسارتهم الظهور وهم يترنحون على الشاشات بأحدث القصات.
وقفزت إلى ذهني حينها عشرات بل مئات الأسئلة: ما السبب في ما نحن عليه من تيه؟ ليجبني أحدكم. هل لأننا لم يعد لدينا كبير؟ أعقمت الأمة عن أن تلد قائداً يعيد لها رشدها؟ أم هم بين أظهرنا كثير، ولكنا بتنا نعتورهم بألسنتنا وأقلامنا انتقاصاً وسخرية، ومن نجا منهم من ذلك تكفل به الأعداء؟
لقد ذبت وكل قطيع رفقاء القلم في المنطقة العربية وسط قيعان وحل متاهات صراعاتنا البينية المستدامة، كلنا ويا أسفاه. كلنا على السواء، صحافيو الدفع المسبق أو الصامتون على مبكى حائط تاريخنا التليد – ولا أستثني أحداً -، نتحمّل بشكل مباشر أو غير مباشر وزراً كبيراً من نتائج مآلات هذا الواقع العربي المسخ المشوه.
أو تدرون يا سادة أننا بتنا نزمر ليل نهار لمئات الصواريخ نطلقها نحن على صدورنا؟ وصرنا نحتفي بتفجير المئات من منازلنا على رؤوس سكانها، ونكبّر لاجتياحنا مدننا المهدمة على رؤوس أطفالنا، ونسمي ذلك زوراً فتحاً وانتصاراً؟ على من؟ علينا. تمترسنا وراء مشاريع لا تتجاوز أهدافها أبواب قصور الحكام الجدد، وثوار غفلة ربيع الموت بمقاصل وسواطير أدعياء الجهاد، جهادٌ ساحته خلف تلة الجولان – أخزاكم الله -! نحن حمال الأقلام وليس سوانا، وجوقة «الدواشين» على شاشات الفضائيات، سيسألنا الله عن الدماء المطلولة ظلماً على طول وعرض وطننا العربي الجريح.
في ساعة كدت أفقد فيها اتزاني ورصيدي الوسطي الطويل، هممت بتحميل قاموس الشتائم والسباب إلى ذاكرتي بكل اللغات، وما منعني من ذلك إلا مرور صورة الشهيد القعيد أحمد ياسين، خاطبتها بأعلى صوت قدرت عليه مصحوباً بنحيب، وكررتها جملة ظللت أرددها لا أدري كم من المرات: «كلنا يا سيدي صار قعيد. لست أنت القعيد. كلنا يا سيدي صار قعيد».
ولطلاب باريس أقول: نحن «الكفار»… سلمتم.