يحدث في اليمن شمالاً وجنوباً: إنفلات أمني يعم كل المحافظات شمالاً وجنوباً وإن بتفاوت. في قلب عدن يُقتل الشاب أمجد عبد الرحمن في مقهی إنترنت عنوة علی مرأی ومسمع الموجودين، ويعتدي رجال الأمن الخاص على رجل المرور؛ فقط لأنه يؤدي عمله بلا تمييز، ويُلقی بجثة هيام في سائلة عصيفرة بتعز مقتولة ومشوهة، في حين يصدم خبر اغتصاب وقتل رنا ذات الثلاث سنوات سكان صنعاء ثاني أيام عيد الفطر.
عصابات تسرق وتخطف جهاراً نهاراً.
حوادث مروعة! والناس تهلل لرجال الأمن الذين قبضوا علی الضالعين في تلك الجرائم التي يفترض أنها لم تحدث أصلاً لولا كل هذا الإنفلات الأمني وغياب سلطة الدولة وسيادة القانون.
فساد ونهب للمال العام، استغلال للوظيفة العامة وتوزيعها عطايا أكثر من أي وقت مضی. حنفية التعيينات لا تكاد تتوقف، في الوقت الذي تعجز فيه الحكومة عن توفير الحد الأدنی من الخدمات، أو دفع رواتب الموظفين.
محافظات تعيش الصيف الأسخن في تاريخها بلا كهرباء ولا ماء ولا خدمات.
في قطاع الصحة، المريض هو المخطئ، لماذا يمرض أصلاً؟ وعقابه إما التعايش مع الألم والمرض أو دفع كلفة التداوي كاملة حتی لو «باع أمه ورهن خالته»، كما يقول المثل، بلا ضمانات للشفاء. باختصار، هو وحظه.
التعليم أصيب في مقتل، ومناطق من ريف المحافظات الشمالية لم يدرس طلابها الفصل الدراسي الثاني من هذا العام؛ لأن المعلمين كغيرهم بلا مرتبات، فأحجموا عن الذهاب لأداء مهامهم التدريسية لعدم قدرتهم علی الوصول إلى مقار أعمالهم أو لأنهم يبحثون عن مصدر دخل آخر مهما كان لعله يسد رمق من يعولون. وها هي اختبارات الشهادتين الأساسية والثانوية تنعقد في أجواء من التواطؤ علی الغش في عملية مقايضة لم يسبق لها مثيل: المال مقابل إجابة الأسئلة ووعود بمعدلات رفيعة.
السوق السوداء تنشط جنباً إلی جنب مع السوق العادية وتنافسها وتوفر ما لا يتوفر فيها علی مرأی ومسمع، ويكاد لا يخلو مربع سكني من محطة لبيع الغاز المنزلي القادم من مأرب، إلا أن التلاعب بسعره الذي قفز ثلاثة أضعاف يتم بعلم وسكوت الجميع، في معادلة لا علاقة لها بقانون العرض والطلب.
مستوی دخل الفرد وصل إلی درجة العدم، كل شيء في حدوده الدنيا بل انحدر عنها.
موظفو القطاع الحكومي في المحافظات الشمالية بلا مرتبات للشهر التاسع علی التوالي، في سابقة لم يشهدها التاريخ ولا الجغرافيا، والكل صامت: لا نضال نقابي ولا مدني ولا فردي، وليس أكثر من التذمر أو إطلاق النكات علی وسائل التواصل الإجتماعي.
في ظل المعطيات السياسية والأمنية والاقتصادية تتسق هذه المظاهر تماماً، لكن من غير المعقول أن يكون رد الفعل كل هذا الصمت والاستسلام.
هل سبق أن عاش اليمنيون ما هو أسوأ علی كل الأصعدة؟
كل هذه المظاهر في كل جوانب الحياة كفيلة بأن تكون سبباً لغضب يستدعي ثورة حقيقية تقلب الطاولة في وجه الجميع. لكن الغضب لا يحدث ولا الثورة أيضاً.
ببساطة وبوضوح ثمة سياسة خبيثة تتبع مع هذا الشعب المنكوب المبتلی بأسوأ قيادات وقوی سياسية علی مر التاريخ: إنها سياسة تشتيت الغضب، نعم تشتيت الغضب، لا تسعی حكومة عدن ولا حكومة صنعاء المتضادتان في كل شيء، المتفقتان حد التطابق في سياسة تشتيت الغضب، لا تسعی أي منهما لتقديم حلول بقدر ما تركز علی تشتيت وتفتيت الغضب هنا وهناك، من خلال القيام بإجراءات ليست أكثر من طعم يوهم بأن حلولاً ما في الطريق، من قبيل تسليم مرتبات لموظفي بعض الجهات، البطاقات السلعية أو القسائم الشرائية، أخبار انتصارات كاذبة، تسريبات هنا وهناك ولا شيء يحدث، كلها نماذح لإجراءات تفتت غضب الناس.
وبالموازاة مع استخدام هذه السياسة يتبع الجميع سياسة أخری هي تحشيد الكراهية وشيطنة الآخر، وكأن المطلوب مزيد من الكراهية بين الأفراد علی خلفية انتماءاتهم ومواقفهم: بين الزيدي والشافعي، بين «الإصلاحي» والحوثي، بين الشمالي والجنوبي، بين السلفي والحداثي، ويحشدون لذلك كل آلاتهم الإعلامية التي تبث سموماً من الكراهية والتكريه ليل نهار، وجيوشاً إلكترونية تختلق قصصاً وأحداثاً ومواقف تتكرر بوتيرة عالية فتحصد كرهاً وتذمراً ونفوراً.
وهكذا تتم صناعة أجندة الجمهور وأولوياته ورسمها مسبوقة بأهداف خبيثة، تذهب به بعيداً عما يجب أن يقوم به إنقاذاً لحاضره ومستقبله.
هل يعقل أن يكون هذا فقط هو ما تمارسه الحكومتان بوعي وعن قصد؟ لم لا؟ ما دام هو الأسهل والأقل كلفة والأضمن لترك السواد الأعظم من الناس يدورون في دوامة من الأمل الكاذب والعداء والكراهية تجاه عدو وهمي، بدلاً من الغضب والثورة في مناخ من تماسك النسيج الإجتماعي الذي أصيب في مقتل.