الصباح اليمني_ثقافة وهوية|
تعد ثورة الرابع عشر من أكتوبر عام 1963م؛ تعبير طبيعي لامتداد التاريخ النضالي في اليمن، فكانت العامل المساعد من جنوب اليمن لتخفف العبء عن ثورة الـ 26 سبتمبر 1962م الثورة الأم في شماله، فثورة سبتمبر مثلّت التأسيس لأول نظام سياسي جمهوري مغاير عن الأنظمة الجامدة في محيطه الجغرافي والإقليمي، فضلاً عن تأسيس نظام اجتماعي واقتصادي يناقض الحالة السائدة في فترة النظام الإمامي المتّسم بالطابع السياسي الاستبدادي الطائفي، وجانب اقتصادي يقوم على الإفقار وهشاشة في البناء الاقتصادي، وجانب اجتماعي يفرق بين فئات المجتمع بين سيد ومسود.
وانتصار ثورة سبتمبر 62م، مهدت لمرحلة حركة التحرر اليمني من الملكية إلى الجمهورية شمالًا، وقاعدة خلفية في استكمال التحرر الوطني جنوبًا. حتى حققت 14 أكتوبر أول شراره للاستقلال عن الاستعمار البريطاني، فشكلّت انتصار الثورتان استكمال مقومات التحرر الوطني نحو:-
– التحرر السياسي من الملكية شمالًا، والتحرر من الاستعمار الأجنبي جنوبًا.
– إحداث متغيرات نحو تطور شامل في جميع مناحي الحياة.
– قيام المجتمع الواحد بين شمال وجنوب اليمن كهدف للحركة الوطنية لتلك المرحلة [1].
ومثلّت الثورتان كيانًا واحدًا بالرغم من كونهما كيانين منفصلين (جغرافيًا)، فقد اجتمعت قوى الحركة الوطنية التي تصّدرت ثورتي سبتمبر وأكتوبر في الأهدّاف وهو ما ترجمتها في الواقع من إيجاد قاعدة للحركة الوطنية نحو التحرّر الكامل شمالًا وجنوبًا، إلاّ َ إنهما لم تجتمع وفق برنامج وتنظيم سياسي موحد؛ نظرًا للتباين حول أسباب متصلة بكافة ظروف تطور الحركة الوطنية شمالًا وجنوبًا، إنمّا كانت تجتمع حول الهدف الواحد: انجاز التحرّر الوطني والاجتماعي الكامل. الأمر الذي يفسر منه عن ماهي التباينات الذاتية للحركة الوطنية شمالًا وجنوبًا؟ وهل أسهمت ثورة 14 أكتوبر في تطور الحركة الوطنية في اليمن؟
وللرد على الاستفسار السابق تجدر الإشارة إلى ذكر الظروف التاريخية لثورة سبتمبر 62م (بإيجاز) لإعتبار أن موضوع الورقة البحثية يتناول ثورة 14 أكتوبر 63م، غيّر أن المفيد ذكر ملمح سريع للظروف التاريخية للثورتين.
– الظروف التاريخية للثورتين اليمنيتين (سبتمبر وأكتوبر).
كان اليمن عبر مراحله التاريخية منذ انهيار دولته المركزية – بعد انهيار سد مأرب[2]، دويلات ممزقة اتسّمت بظهور تشكيلات اقتصادية واجتماعية أدّت إلى صراع سياسي وتدهور اجتماعي وركود اقتصادي، ومع ظهور الدولة الإسلامية أصيب اليمن بنكسات الدول المتعاقبة على الخلافة الإسلامية، وسعى بحركات عصيان ذات طبيعة انفصالية لبناء دولته فأصيب بالخذلان[3]؛ لكونه لا يمتلك المقومات الذاتية بالمقارنة بالأقطار الإسلامية – آنئذ – مصر مثالًا.
كما أنَّ بُعدّ اليمن عن العواصم التي شهدت صراعات سياسية ومذهبية (فكرية ودينية) ووصّل تأثيرها إلى اليمن لتشكَّل ثقافة حضارية لبلد انقطع عن حضارته التاريخية القديمة ويفتقر عن الإتيان بالجديد أو التجديد حتى أصبّح التشيع والتسّنن ضمن صراعاته الذي تنامى عند مجيء العثمانيين إلى اليمن لعجزهم عن إحكام السيطرة عليه[4]، ويرجع ذلك إلى السيطرة الغير كاملة على اليمن بسبب وعورة أراضيه، حتى سيّسها نظام الأئمة إلى مذهب حكم في شمال اليمن.
وعندما نشأت الحركة الوطنية في شمال اليمن فترة الثلاثينيات – فترة حكم الإمام يحيي، كانت ذو محتوى سياسي إصلاحي أي أنها لم تكن حركة وطنية بالمعنى الدقيق[5]، لقيامها على أساس تراث ديني – كما سبقت الإشارة آنفًا.
ومع فترة الخمسينيات، بدأ الفكر السياسي نحو التغيير من ملكية إلى جمهورية متأثرًا بالمتغيرات العربية وحركات التحّرر وبثورة مصر 23 يوليو 1952م (خصوصًا)، حيث قاد شمال اليمن ثورته على غرار ثورة يوليو المصرية، فأصدرت المبادئ الستة اليمنية على عدد بنود الثورة المصرية، وتسّمت بـ “الجمهورية العربية اليمنية” على غرار تسمية “الجمهورية العربية المتحدة[6]، فضلًا عن أنَّ تنظيم الضباط الأحرار الذي تأسس عناصره من جيش الإمام “أحمد حميد الدين” ذو الرتبة الصغيرة، كان على غرار تنظيم الضباط الأحرار في مصر[7]. وقد كان التنظيم مكونًا من أفراد محدودي العدد ويفتقرون إلى التجربة السياسي مما سهل إزاحتهم؛ بخلاف الجبهة القومية كانت تنظيمًا ممتدًا[8].
ويتضّح مما سبق أن البُنية السياسية التي قادت ثورة سبتمبر 62م؛ لم تكن تمتلك تجارب خاصة بها، والذي يرجع إلى التشبع القبلي والإصلاحي الغير قادرة على توظيف برامج محددة، مما أدى إلى تعميم الشعور من أنَّ الخلاص من الإمام هو الهدّف، نتّج عنه تسليم قيادة الثورة لعناصر قيادية لم تساهم في قيامها، فأدى بطبيعة الحال إلى التخلص من العناصر التي صنعت الثورة في أيام قلائل منهم الشهيد علي عبد المغني، كما أنّه فتَح الباب للتدخل الخارجي والذي شكَّل بدوره سلبية، في عودة الملكيين والعناصر البائدة المتضررة من الثورة تحت اسم “الجمهوريين المعتدلين” – وهو الشعار المعبر عن الاتفاق مع الرجعية العربية والقوى الخارجية – في 5 نوفمبر 1967م، وعلى الرغم من تلّك الظروف والمعوقات إِلاَّ أنَّ ثورة سبتمبر 62م، تمكنت من بلوغ أهدافها في: التخلص من النظام الأمامي الرجعي، تثبيت النظام الجمهوري، وتحقيق متغيرات بإحداث تطور شامل في مجال التعليم، و إقامة جيش وطني، وتطوير المجال الاقتصادي سواء في القطاع العام والخاص والمختلط، وتحقيق الإرادة اليمنية في انتهاج سياسة داخلية، وفي انتهاج سياسة خارجية منفتحة مرنة حسَّنت علاقة جمهورية شمال اليمن بدول العالم والحفاظ على سيادته[9].
أما في الجنوب، فقد أخضع للاستعمار البريطاني في عام 1839م، فأصبحت عدن مستعمرة تتمتع بامتيازات عن باقي المحميات التي كانت تخضع لنظام إداري بدائي تعسفي نتيجة تعدد السلطنات وإدارتها نتيجة للتناقضات والصراع بين السلطنات وسيطرة القبائل على السلطنة[10]، حتى بدأت بريطانيا منذ العام 1918م بتوقيع (31) معاهدة حماية فتكون جنوب اليمن من (25) ولاية ومشيخة “مستعمرة عدن” و “المحميات الشرقية والغربية” باتباع سياسة “فرق تسد” و “سد تفرق” [11]، بغرض فرض العزلة بين أبناء الجنوب وأيضًا عزل آخر للجنوب عن الشمال.
وفي الفترة 1932 – 1937م أصبحت عدن تتبع إدارة وزارات المستعمرات البريطانية في لندن[12]، وتماشيًا مع سياسة بريطانيا في عزل عدن وطمس هويتها فتحت بريطانيا المجال لقوميات عديدة[13]؛ حتى تُحكم فرض سيطرتها، والذي كان أثره جليًا في ظهور البرجوازية التجارية والعمالية، مما أتاح ذلك فضلًا عن التوسع التجاري؛ في فتح أبواب الهجرة والذي أدى إلى الانحلال التدريجي للعشائرية في مجتمع جنوب اليمن، مما هيّأ الفرصة في بروز التنظيمات السياسية والتقدمية للتأثير في كسب قوى ضّد الاستعمار هذا من جهة، ومن جهة أخرى فرصةً في بناء التنظيمات التقدمية نفسها نتيجة التغيير في بنية المجتمع.
كما أنَّ هيكلة بريطانيا لسلطة سياسية وإدارية اتسّمت بالدقة والانضباط؛ وإن كان هيكله شكلية لكونها (سلطة احتلال)[14]، لكنّها أثرت في تشكل رأي عام في أداء مؤسسات السلطة في عدن، أيضًا انتشار المدارس والقانون والصحافة[15]، كل ذلك ساهم في بناء حركة وطنية تنظيمية أكثر نضوجاً وشكّلت قاعدة اجتماعية أكثر انفتاحًا نتيجة امتزاج أهلها بحضارات وثقافات وأجناس متعددة في المستعمرة، كما أصبحت عدن أيضًا فرعًا لتنظيمات سرية في الشمال. بيد أنَّ سماح بريطانيا لتلّك التنظيمات السياسية تهدف منه خلق صراعات بينها لِتُحكم سيطرتها في الاحتلال.
وبالرغم من هذه التباينات في ذاتية الحركة الوطنية شمالًا وجنوبًا؛ إِلاَّ أنها شكلّت بوجودها روافدًا أساسيًا للثورتين (سبتمبر وأكتوبر) في تلك الظروف الصعبة -آنئذ، الأمر الذي يؤدي إلى طرح السؤال من يحتل الأولوية؟ الوطنية؟ أو الأيديولوجيا؟ حتمًا أثبتت الثورتان أن الوطنية أولاً وأخيرًا هي الأولى.
– البدايات الأولى لثورة الرابع عشر من أكتوبر.
قبل مطلع الخمسينيات من القرن العشرين، قامت انتفاضات موجهه ضّد المستعمر البريطاني في كلٍ من الفضلى 1946م، الضالع 1947م، الحواشب 1950م، حضرموت 1951م، يافع 1958م، غيّر أن جميع هذه الانتفاضات لم تكن سوى انتفاضات قبلية عفوية لا تمتلك القيادة الثورية والتنظيمية، كما قامت في عدن انتفاضات لقطاع الطلاب عام 1946م، والعمال 1956م، إِلاَّ إنّها لم تكن ذات طابع سياسي، حتى تمكّن الاستعمار من القضاء عليها[16].
وإلى جانب هذه السلسلة من الانتفاضات، شهدت الفترة ما بعد النصف الثاني من الخمسينيات تطور حركة النضال الوطني ضّد الاستعمار الذي تمثَّل في الآتي: –
1– الحركة العمالية: مثلّت الحركة العمالية الدور الحيوي في النضال الوطني والتي يرجع تاريخ نشؤها عام 1942م، وقد بدأت نشاطها الفعلي في عام 1952م، وتكونت عناصرها من عمال الميناء والمنشآت والمؤسسات الجديدة التي أقامها الاستعمار خاصةً مصافي البترول.
وبدأت الحركة في قيامها بالمظاهرات والاضرابات ضّد المستعمر حتى أصبحت قوة سياسية مؤثرة إِلاَّ أنها دخلت ميدان العمل السياسي المنظم عام 1956م، في المطالبة بالاستقلال وتحسين ظروف العمل وزيادة الأجور[17].
2– حركة القوميين العرب: تكونت في عام 1959م، كأول فرع لها في اليمن والتي كانت يمثلها الطلاب الدارسين في مصر، فكان في رئاسة الحركة فيصل عبد اللطيف وقحطان الشعبي، وقد تكونت خلية لها في الشمال من نفس العام، وخلال الفترة بين عامي 1959 ـــــ 1963م، مثَّل فرع الحركة دوراً بارزاً في نشر الأفكار التحررية والتعبئة ضد الاستعمار، كما وقف ضّد المشاريع الاستعمارية ومنها (اتحاد امارات الجنوب العربي) بإصداره وثيقة اتحاد الامارات المزيف في عام 1959م[18]، أكدّت من كونها مؤامرة تتوجب تبني الكفاح المسلح لطرد الاستعمار.
خليك معنا