الصباح اليمني_مساحة حرة|
على مدى سنوات القرن العشرين جهدت القوى الاستعمارية على تقسيم شعوب العالم إلى دول متناحرة، تحارب بعضها بعضاً على بضع كيلومترات من خط حدودي، أو على نزعات مواطنين في دولة معينة للانتقال إلى دولة أخرى لأسباب إثنية، أو دينية أو طائفية. ونال وطننا العربي نصيبه من هذا المخطط الاستعماري، الذي قسم في الكثير من الحالات عائلات، فتجد الأب يحمل جنسية دولة، والأبناء جنسية دولة أخرى، والأم جنسية دولة ثالثة.
نجح الاستعمار في تحويل الخلاف إلى عداء، معتمداً على طرح هويات دون وطنية، كالهويات المناطقية، والعشائرية والدينية. فقطعت العلاقات بين دول عربية، بل ووصلت الأزمات أحياناً إلى حدود الاشتباكات العسكرية، وأصبح طموح أي عربي رؤية حدث سياسي أو ثقافي أو رياضي يشارك فيه أبناء جميع الدول العربية بعيداً عن المشاحنات والمقاطعة والاعتذار.
ما أن بدأت العشرية الثانية من القرن الحادي والعشرين حتى انطلقت أحداث “الربيع الأميركي” وشاهدنا دولا عربية تنفجر من الداخل، بتمويل ومساعدة من دول عربية أخرى. شاهدنا العشائر والطوائف تشكل جيوشا، واثنيات تعلن ما يشبه الاستقلال، ولغات بادت يحاول البعض إحياءها، وأصبحت العروبة، كما بدا لنا حينها، خيارا من عدة خيارات، بل وحاولت الدول الاستعمارية تغيير دساتير بعض الدول وأسماءها لحذف كل ما يشير أو يمت للعروبة بصلة.
كانت قضية فلسطين، الشعرة الأخيرة التي يتوحد العرب تحت لوائها. اجتهد داعمو “الربيع الأميركي” للفصل بين الأمة العربية والقضية الفلسطينية. انتقل المقاومون ومن يدعمهم من خانة الثوار إلى خانة الإرهابيين، واعتقل كل من رفع صوته مؤيدا للفعل المقاوم أو منددا بالجرائم الصهيونية. انتقل “الربيعيون” إلى التطبيع، لكنه لم يكن تطبيعا هادئا كما فعلت سابقا مصر والأردن. اعتمدت دول التطبيع الجديد على مفهوم الصدمة، فخلال فترة قصيرة أعلنت العلاقات بين الدول الخليجية المطبعة والكيان الصهيوني، وافتتحت السفارات وعقدت المؤتمرات، وأصبح التطبيع مع العدو قضاء لا مرد له.
واضطر الكثيرون إلى التغاضي عن إدانة دول التطبيع، سواء على المستوى السياسي لما تتمتع به تلك الدول من ثقل اقتصادي مهم في المنطقة والعالم، أو حتى على المستوى الفردي لأن تلك الدول تمثل حلما لكل مواطن عربي باحث عن مستقبل أفضل من ذلك الذي يحصل عليه في بلده.
قامت دول التطبيع الخليجية بتعزيز الشعور بخطورة إدانتها من خلال إنهاء عقود لبنانيين وسوريين وفلسطينيين بتهمة دعم المقاومة في منشورات على وسائل التواصل الاجتماعي. هرعت دول أقل أهمية مثل السودان والمغرب لركوب قطار التطبيع على أمل الحصول على بعض فتات الدعم الخليجي، واستجداء للدعم الأميركي للأنظمة الحاكمة.
هكذا كانت صورة وطننا العربي مع إطلاق صافرة البداية في مباراة قطر والإكوادور التي انتهت بخسارة الفريق القطري، التي تلاشت معها حالة النشوة التي رافقت الافتتاح الضخم للمونديال. كان فوز السعودية على الارجنتين، رغم ما رافقه من ضجة إعلامية، حدثا عابرا لأن المنتخب السعودي عاد ليخسر في المبارتين التاليتين. وحده منتخب المغرب قدّم أداء تصاعديا وبدأ يجتذب اهتمام الجماهير العربية من المحيط إلى الخليج.
كان التأهل إلى الدور التالي متصدرا لمجموعته إنجازا جعل مبارياته تتحول إلى حدث عربي يتابعه كل محبو الرياضة العرب. وجاء الفوز تلو الفوز لنجد المنتخب المغربي يهزم أقوى المنتخبات ويصل إلى الادوار النهائية وأصبح حلم الوصول إلى المباراة النهائية، بل وتحقيق كأس العالم حلما مشروعا.
لا يكاد بيت عربي يخلو من حديث عن منتخب المغرب وإنجازاته، ولا تكاد تمر بشارع في مدينة عربية دون أن ترى علم المغرب يرفرف على بعض شرفاته أو على أبواب المحلات والمقاهي. الكبير قبل الصغير يستعد للمباراة القادمة، ويؤكد قدرة المغرب على الانتصار، بل إن بعض المصطلحات من اللهجة المغربية أصبحت عنوانا على صفحات التواصل في بلدان المشرق العربي مثل “ديما المغرب”.
رغم كل ما فعله الاستعمار والأنظمة المرتبطة به، وبغض النظر عن نتيجة المباراة القادمة، هذا الاصطفاف العربي وراء منتخب المغرب يؤكد الحقيقة الراسخة من أن الوعي التاريخي لأبناء هذه الأمة من محيطها إلى خليجها ما زال وعيا عربيا اختياريا. هذه الجماهير امتلكت خيار القطرية، والانكفاء على الذات لكنها في اللحظة المواتية أعلنت عن نفسها بأنها جماهير عربية تمتلك وعيا بعروبتها يحدد نظرتها إلى العالم وسلوكها تجاه ما يحيط بها.
يحاول بعض المشككين الاستخفاف بما حدث واعتباره حالة وجدانية مؤقتة سوف تنتهي بانتهاء أحداث المونديال. بالتأكيد لن يهرع المواطنون العرب غدا أو بعد غد، أو في حال فوز المغرب بالكأس العالمية، إلى الحدود التي تفصل بينهم ويقومون بإزالتها. لكن ما حدث يقول لكل من يحمل جذوة العروبة في قلبه وبندقية المقاومة في يده أن الأمة ما زالت بخير وأنه ماض على الطريق الصحيح.
المصدر: الميادين نت