كل ما قدمه الرجل لم يرضِهم. ثمة حكام كثر يساومون على سياساتهم مقابل منافع يمنحهم إياها المستعمر أو المهيمن، تحفظ كرسياً أو تؤجل سقوطاً قريباً. لكن، من سمع عن زعيم باع أرض بلاده أو أهدى جنود عسكرها لهؤلاء؟ ثمة رئيس عربي اسمه عمر حسن البشير فعل الأمرين معاً، أملاً بمقابل يتضح كل يوم أنه لم، ولن، يأتي!
منذ سنوات، باشر الرئيس السوداني عمر البشير استدارة نحو محور واشنطن، وبدأ يحث الخطى صوب أحضان الأميركيين، حتى بلغ في الارتهان مبلغاً لم يعد معه متوقعاً أن كل ما سلّفه سيكون بلا طائل أو خالياً من عوائد تستأهل. غير أن الولايات المتحدة قدمت أمس هدية كبرى لمناوئيها، وأثبتت من جديد أن الرهان على تلك «الجنة» التي ترغّب بها «المارقين» عن مظلتها، لا يكون رهاناً رابحاً دوماً. خذل الأميركيون عمر البشير، أمس، شرّ خذلان. الخيبة بدت كبيرة في الخرطوم خلال اليومين الماضيين، بحجم الأوراق التي رماها الرئيس على مر سنوات. تقسيم البلاد، الافتراق عن إيران، الابتعاد عن المقاومتين الفلسطينية واللبنانية، التحالف مع السعودية، إرسال آلاف الجنود إلى اليمن من أجل الموت بدلاً من الجنود السعوديين، تطويع الاقتصاد… جربها عمر البشير وذهبت جميعها هباء.
الراصد لأخبار السودان، منذ أن أقر الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، رفعاً جزئياً للعقوبات على هذا البلد، يلاحظ أن المتابعة لموعد انتهاء المهلة في 12 تموز الجاري، كانت حديثاً شبه يومي، مع طفرة في تصريحات الإدارتين (أوباما ودونالد ترامب) تطمئن إلى أن واشنطن ماضية في إنهاء هذا الملف، وأن ضم الخرطوم إلى «الحظيرة» بات مسألة وقت. هذا على الأقل ما كان يردده، تصريحاً وتلميحاً، القائم بالأعمال الأميركي في السودان إستيفن كوتسيوس. إلا أنه قبل يومين، لم تتردد الولايات المتحدة في إرجاء بت القضية ثلاثة أشهر إضافية.
وحجة واشنطن تقول، وفق بيان الخارجية، هي «سجل السودان في مجال حقوق الإنسان وقضايا أخرى» ما يستدعي إبقاءه «تحت الاختبار» إلى أن يتأكد أنه «قد عالج بشكل تام مخاوف واشنطن في هذا الصدد». يشار إلى أن قرار رفع العقوبات الاقتصادية عن السودان الصادر في كانون الثاني الماضي آخر أسبوع من ولاية أوباما، لم يشمل العقوبات المفروضة على هذا البلد كـ«دولة راعية للإرهاب»، وأرجئ تنفيذه 180 يوماً من أجل تشجيع الخرطوم على «مكافحة الإرهاب ومعالجة سجل حقوق الإنسان». اللافت اليوم أن واشنطن بدأت تشيد بدور السودان في مكافحة الإرهاب، وخصوصاً ضد «داعش» (من دون توضيح ما قدمته الخرطوم في هذا المجال)، مع الثبات على توجيه الانتقادات إلى السجل الحقوقي. خيبة كبيرة في الخرطوم في السودان، ظهرت علائم الإحباط واضحة على الرئيس عمر البشير وفريقه الحاكم، في أعقاب الأنباء عن تمديد مهلة رفع العقوبات. سارع البشير إلى إصدار قرار جمهوري بتجميد لجنة التفاوض مع الولايات المتحدة حتى 12 تشرين الأول المقبل، موعد انتهاء المهلة الأميركية الجديدة. وأسف وزير خارجيته إبراهيم غندور، لصدور القرار «بعد هذه الفترة الطويلة من الحوار بين السودان وأميركا». وقال: «باعتراف الجانب الأميركي والأوروبي والأفريقي، قام السودان بإيفاء التزاماته بشأن المسارات الخمسة بالكامل، والمؤسسات الأميركية المعنية بذلك أكدت ذلك في حواراتنا الثنائية الفنية والسياسية». إلا أن حالة الغضب جراء استشعار «الإذلال» لم تدم طويلاً، إذ إن غندور عاد وأوضح أمس أن التعاون مع واشنطن مستمر. وفي تناقض غامض، أشار في مؤتمر صحافي إلى أن «الرئيس جمَّد عمل لجنة التفاوض مع الولايات المتحدة، ولم يجمد عمل المؤسسات»، مؤكداً التزام الخرطوم «تطبيق المسارات الخمسة مع الولايات المتحدة، باعتبارها مسألة وطنية وأخلاقية». وحول «المزيد» الذي تنتظره واشنطن في الأشهر الثلاثة المقبلة، قال: «ليس لدينا ما نقدمه أو نضيفه، وأوفينا ما علينا». وأبرز ما تتضمنه المسارات الخمسة: التعاون مع واشنطن في محاربة الإرهاب، إنهاء القتال ضد المجموعات المسلحة، وقف دعم المتمردين في جنوب السودان والسماح للعاملين في المجال الإنساني بالوصول إلى مناطق الحرب. وفي المواقف الداخلية، تأسّف البرلمان السوداني، هو الآخر، على قرار الرئيس دونالد ترامب تأجيل رفع العقوبات، وأعلن تأييده لقرار تجميد عمل لجنة التفاوض، مؤكداً في الوقت نفسه الوفاء بالعهود والالتزامات الدولية. موقف البرلمان الهادئ، قابله موقف تصعيدي لحزب المؤتمر الوطني الحاكم، حمّل فيه واشنطن نتيجة تمديد العقوبات. واعتبر نائب البشير في الحزب إبراهيم محمود، أن الذين اتخذوا القرار يتحملون مسؤولية أي تأثيرات سياسية وأمنية، وأن القرار سيشجع المتمردين والجماعات المسلحة على بدء نشاطاتها وزعزعة الأمن في السودان والمنطقة.
الموقف الأميركي
يعتقد بعض المتابعين في واشنطن لملف العلاقات مع السودان، أن التناقض والضعف وغياب المتابعة الجدية في إدارة ترامب أسباب رئيسية لتشتت الموقف الأميركي والتأخر في تسوية الخلاف مع الخرطوم. في المقابل، ثمة من يتحدث عن غلبة التيار اليميني في فريق ترامب (يتزعمه نائبه مايك بنس)، بما يجعل أخبار هدم الكنائس واضطهاد المسيحيين في السودان تؤثر على موقف البيت الأبيض وتدفعه نحو عدم الاكتراث بخطة باراك أوباما، إضافة إلى استغلال المهلة في سحب مطالب أخرى من البشير، أبرزها التأكد من قطع العلاقات بكوريا الشمالية. ترامب كان واضحاً ومباشراً، قبل أسابيع، في التريث بالموقف من نظام البشير، مع رفضه حضور الأخير لقمة الرياض. ورصد البعض قلقاً بدأ يراود الرئيس السوداني منذ منعه عن حضور هذه القمة، تجلى في الموقف من الأزمة الخليجية، حيث اتخذ السودان منحى محايداً، بل أقرب إلى قطر (استقبل البشير وزير الدولة للشؤون الخارجية القطري قبل أيام)، برغم المشاركة العسكرية في اليمن تحت قيادة إماراتية في معارك الساحل الغربي، وسعودية في أماكن أخرى. ولعل هذا ما يفسر تحذيرات أطلقت في الصحافة الغربية من تغيير السودان تموضعه الدولي في حال عدم رفع العقوبات. تحذيرات ترافقت مع تلويح مصادر سودانية بـ«خطة بديلة» يعدها البشير لسيناريو عدم الاستجابة الأميركية، تشمل ملفي الاقتصاد والعلاقات مع الخليج وواشنطن.