بامتعاض وبنبرة متبرمة قال: «عما قريب، سأوصد المكتبة للأبد، وأبحث لي عن مهنة أخرى». الرجل الخمسيني الذي يدير محلاً من سلسلة محلات لبيع الكتب في العاصمة صنعاء، مملوكة لأمين عام التنظيم الوحدوي الناصري السابق، يوشك أن يفلس؛ ليس بفعل عدوان كوني انتصف عامه الثالث على اليمن ـ طبقاً لروايته ـ، بل لأن معظم زبائنه التحقوا بعواصم دول «تحالف دعم الشرعية» كما يسميها.
بعبارة أخرى، تفسخت جلود النخبة المنقوعة بالحبر لعقود عن محض مرتزقة، ومؤجري أقلام وألسنة ويافطات شتى، وبائعي هوى مركونين في كواليس فضائيات البترودولار وغرف الفنادق حتى إشعار من «نجوى»، بمن فيهم أمين عام الناصري السابق ذاته الذي تؤول إليه ملكية سلسلة محلات بيع الكتب الآنفة.
مرةً أخرى، دوّت مقولة فلاديمير لينين الشهيرة في رأسي: «المثقفون أكثر الناس خيانة لأنهم الأقدر على تبريرها».
ولأنهم كذلك، فلا مفارقة في أن يُطلّ عبد الملك المخلافي ـ وهو أمين عام المؤتمر القومي السابق ـ من عقر دار قتلة الرئيس إبراهيم الحمدي (الرياض)، مطالباً صنعاء بـ«تسليم قتلة الحمدي للمحاكمة»، أو أن ينبش أمين عام الناصري السابق، سلطان العتواني، رفاة الزعيم الراحل، جمال عبد الناصر، ليقدّمه «علفاً لجِمال نجد»، جازماً أنه لو كان عبد الناصر حياً لوضع يده في يد سلمان ونجله الدب الداشر، وانحاز لتحالف العدوان الأمريكي السعودي على اليمن.
كما لا مفارقة في أن يحتفل ياسين نعمان بذكرى استقلال جنوب اليمن من الإستعمار البريطاني، مؤكداً من مقر إقامته في لندن بأوداج تترجرج وطنية أنه «لا غنى عن بريطانيا في سياق نضال اليمنيين لبناء واستعادة دولتهم الوطنية الإتحادية من أيدي الإنقلابيين».
لعقود طوال، عاش اليسار والقوميون بين أكداس «رأس المال، والبيان الشيوعي، وأصل العائلة، ومخطوطات أنجلز، وفلسفة الثورة، ونظرية الثورة العربية، ولافتات مايكوفسكي، وأمميات بابلونيرودا، ومطولات غوركي الروائية، ومذكرات جيفارا، وميثاق جمال عبد الناصر،…»، يقضمون أوراقها كفئران نهمة، وينقعون أدمغتهم بحبرها وحروفها، وفي لحظة فاضحة فاجرة مقرفة وصفيقة «استفرغوا» كل الحبر وكل الفكر وكل الشرف على «صحن كبسة»، وترجلوا عن منصات ألوهيتهم، ليلتحقوا بغرف تحالف البترودولار كعملاء إحداثيات وخبراء «مساج» عند أقدام مليك الزهايمر.
بائع الكتب الخمسيني لا يتقن مهنة أخرى سوى مهنته التي ولد فيها وشب معها. عام ثالث يوشك أن ينصرم وهو ينتظر عودة زبائنه على متن مدرعات «التحالف» عبثاً. يتساءل في قرارته: «كيف يمكن لأميين جهلة متخلفين انقلابيين أن ينتصروا على تلك النخبة من الساسة والمثقفين ومن ورائهم أمريكا؟!».
عصفت رياح النصر بعاصفة العدوان، لكن مسلمات بائع الكتب لا تزال تقاوم اليقين بالأوهام. أردت أن أقترح عليه مهنة بديلة: بيع وشراء الأحذية عوضاً عن انتظار أدمغة خصفها أصحابها نعالات رخيصة لأقدام الملوك والأمراء.
أسوأ ما يمكن أن يحدث أن أفيق ذات يوم على المحل، وقد غدا مطعماً لـ«الكبسة»!