لا أحد يحتاج إلى إثبات ما هو ثابت تاريخياً، أو تأكيد ما هو مؤكد سياسياً، من أن الواقعة المنشئة للكثير من الأزمات، والعديد من الحروب، في ما بين دول الجوار، غالباً ما تكون النزاعات الحدودية. فالأزمة الناشئة أو التي نشأت، على سبيل المثال، بين الصين والهند، أو الهند وباكستان، أو تركيا واليونان، أوالعراق وإيران، أو بين أي دولتين متجاورتين غالباً ما تكون نزاعات حدودية، علاوة على لغة المصالح.
غير أن ما يحدث في المنطقة العربية، وبالتحديد منطقة الخليج العربي، من نشوء خلافات، واصطناع أزمات بين دول الجوار وصلت إلى حد القطيعة، وتنذر بقرب اندلاع حرب وشيكة قد تقضي على الأخضر واليابس، ليدعو للغرابة والاستهجان في آن واحد.
وعنصر الغرابة في الأزمة الخليجية القائمة يتمثل في عدم وجود نزاعات حدودية راهنة ومعلنة في ما بين أطرافها. وهو ما يذكرنا بالأزمات والحروب التي كان عرب الجاهلية يفتعلونها ويخوضونها على أتفه الأسباب، ونتذكر منها حرب داحس والغبراء التي استمرت أكثر من أربعين سنة، وليس من سبب وجيه لاندلاعها سوى التناحر على السيادة التي كانت السمة السائدة لاندلاع كل حروب عرب الجاهلية آنذاك، بعدما تمكنت النعرات في نفوسهم، وتوغلت في قلوبهم، حتى هيمنت على عقولهم وأوردتهم المهالك.
وها هم عرب اليوم يتوارثون كل ما كان سيئاً في عصر الجاهلية، ويتخلون عن كل ما كان سلوكاً جميلاً وحسناً، كالصفات النبيلة والخصال الحميدة التي لطالما تحلى بها عرب الجاهلية، كإغاثة الملهوف ونصرة المظلوم وعدم الإستقواء على الأخ أو القريب بالأجنبي ومراعاة حق الجوار، ولم نعد نرث منهم إلا مساوئهم. ها هم عرب اليوم يتوارثون كل ما كان سيئاً في عصر الجاهلية
حرب داحس والغبراء التي اندلعت بين قبيلتي عبس وذبيان، واستمرت أكثر من أربعين عاماً، سببها سباق بين فرسين أحدهما يسمى «داحس» والآخر «الغبراء»؛ حيث اتفق الطرفان على أن من سيكسب الرهان سيظفر أولاً بمائة ناقة، وثانياً، وهو السبب الرئيس لإقامة هذا الرهان، سيتولى صاحب الفرس الفائز رعاية وتأمين مصالح الغير، وبالتحديد «المناذرة»، الذين غالباً ما كانت تتعرض ممتلكاتهم وقوافلهم التجارية وقوافل حجيجهم للاعتداء والسلب والنهب في المناطق التي تتبع قبيلة ذبيان، أو التي تحت حمايتها، مما سبب غضب النعمان بن المنذر، ملك «المناذرة»، وإيعازه إلى قيس بن الزهير، من «عبس»، بحماية القوافل مقابل عطايا.
واشترط ابن الزهير شروطاً وافق عليها النعمان، ما أثار حفيظة بني ذبيان وغيرتهم، كون تلك المهمة أُسندت إلى خصومهم العبسيين. وعلى الأثر، طلب رئيس قبيلة ذبيان، حذيفة بن بدر، لقاء قيس بن الزهير، رئيس قبيلة «عبس»، وخرج مع أتباعه لملاقاته، وصادف أن كان يوم سباق، واتفق الطرفان على إقامة رهان وسباق بين الفرسين، ومن سيظفر بالسباق فإنه سيتولى حماية وتأمين قوافل «المناذرة». وبالفعل تم السباق، وكانت المسافة كبيرة، تقطع خلالها شعب صحراوية وغابات، ويحتاج ذلك عدة أيام. وفي خضم السباق، أوعز حمل بن بدر، شقيق رئيس قبيلة ذبيان، إلى نفر من أتباعه بأن يختبؤا في الشعاب، قائلاً لهم: «إذا وجدتم داحساً متقدماً على الغبراء، فردوا وجه، كي تسبقه الغبراء». ففعلوا ذلك وتقدمت الغبراء، وبعد انكشاف الأمر، اندلعت حرب بينهما استمرت أكثر من أربعين عاماً، عُرفت بحرب «داحس والغبراء»، واشتركت فيها العديد من القبائل العربية في صف بني ذبيان، مثل طيئ وهوازن اللتين كان لهما ثأر مع «عبس». وانتهت تلك الحرب بهزيمة «عبس»، وانقضاء سطوتها على يد بني ذبيان.
إذن، هذا هو الواقع الذي كان يعيشه عرب الجاهلية، ولا يختلف كثيراً عن الواقع الماثل أمامنا، والذي يعيشه عرب اليوم. وأوجه الشبه في ذلك كثيرة ومتعددة؛ من التناحر والصراع على السيادة، إلى بذل كل طرف كل ما في وسعه من أجل توفير الأمان للغير وللأجنبي وحماية مصالحه، حتى لو كلف ذلك نشر الفوضى والخراب والدمار في بلادهم. وإذا ما تمعنا أكثر، وربطنا موجهات وعناصر صراع اليوم بمحددات وعناصر وخلفية صراع الماضي، ووضعنا مثلاً مسببات صراع اليوم محل مسببات صراع الماضي، حينها سنكتشف مدى النزعة الغريبة التي يتفنن بها العقل العربي في افتعال الأزمات، واختلاق مبررات واهية لها، ومن ثم غلق كل الأبواب في وجه من يسعى لحلها.