ما الذي ينقص أي قضية عادلة كي تنتصر؟ إنه المشروع المستقبلي الذي يجتاز مرحلة الظلم إلی مرحلة الإنصاف ثم العدالة والبناء، فالمشروع يترتب عليه تكاتف وتظافر الجهود، وتوحد الرؤی، وأمامه تتضاءل كل المصالح الشخصية وتذوب حالات الاحتقان العاطفي حباً كانت أو كراهية.
تعود بي الذاكرة إلی مؤتمر الحوار الوطني بفرقه التسع التي تصدت كل منها لقضية، كانت القضية الجنوبية وقضية صعدة هما الأكثر حساسية وتعقيداً.
إنها المظلومية العميقة المتراكمة المسكوت عنها.
يعتقد اليمنيون في طول اليمن وعرضها في كل مدينة علی حدة أنهم كانوا الأكثر ظلماً وتهميشاً من غيرهم، يردد المواطن الإبي أن إب المدينة الخضراء وعاصمة السياحة لم تكن أكثر من مكرمة تمنح المناصب العليا فيها لأصحاب الحظوة لدی السلطة في صنعاء، وهو الاعتقاد نفسه لمواطن الحديدة أو ريمة أو الجوف أو مأرب وغيرها من المحافظات، لكن صعدة كانت مسرحاً لحمامات دم متتالية، ليست الحروب الست كل ما فيها، كما كانت المحافظات الجنوبية شاهدة علی أكبر عملية إقصاء وتهميش.
هناك من سيقول إن المحافظات الجنوبية شهدت حركة إعمار ونهضة ملفتة منذ إعلان الوحدة في 22 مايو 1990، لكن السؤال الذي يفرض نفسه هو: إلی أي مدی انعكست حالة البناء والإعمار علی المواطن الجنوبي إيجاباً في ممتلكاته، مدخراته، دخله، ظروفه المعيشية؟
في حقيقة الأمر، المشاريع الاستثمارية في المحافظات الجنوبية غالباً مملوكة لنافذين ومسؤولين أو رجال أعمال من المحافظات الشمالية، وهذه المشاريع استقطبت عشرات الآلاف من الأيدي العاملة من المحافظات الشمالية أيضاً، وفي حين ظل المواطن الجنوبي العاطل عن العمل يحدق في الفندق المجاور لمنزله، والذي يمتلكه مستثمر شمالي (دحباشي) وكل عماله من المحافظات الشمالية ويتجول في السوق ليجد أصحاب البسطات والعمال أيضاً «دحابشة»، كان يتنامی داخله شعور بالنفور والكراهية لكل هؤلاء الذين يعتقد أنهم استحوذوا علی كل شيء: الوظيفة والفرصة والاستثمار. وربما هذا مما يفسر الموقف العدائي تجاه مواطني المحافظات الشمالية من البعض وعمليات الطرد والمصادرة والمضايقات والتهديد التي طالت المئات منهم في عدن وحضرموت والضالع وأبين وغيرها.
تسيطر علی ذهن المواطن الجنوبي فكرة ضرورة أن يكون موظفاً حكومياً يتقاضی راتباً شهرياً يدبر به أمور حياته، ولعل هذا من تركات الفكر الإشتراكي، بينما يسعی المواطن الشمالي للحصول علی أي عمل: حرفياً، عاملاً، حارساً، بائعاً متجولاً… أياً كان، ولذلك أصبحنا نری الريمي والإبي والذماري وصاحب حجة يعملون في حضرموت وميناء عدن، في حين أن المواطن الجنوبي لا يعمل، وحتی الحصول علی وظيفة حكومية بات صعباً جداً، بل أكثر من ذلك: فرصتة في الحصول علی وظيفة في صنعاء أسهل مما لو كان في عدن مثلاً، وهذا ما جعل مواطني المحافظات الشمالية يرددون: لماذا كل هذا التذمر والجحود من أصحاب الجنوب وهم يشغلون آلاف الوظائف الحكومية في صنعاء تحديداً؟
كل معضلاتنا نتاج إرث ثقيل من الفساد المالي والإداري والإقصاء والتهميش وتصفية الحسابات الشخصية.
خرج مؤتمر الحوار بوثيقة تاريخية بمثابة خارطة طريق ونافذة سحرية للمستقبل، إلا أن ما يخص قضية صعدة والقضية الجنوبية لم يصل إلی نقطة التوافق الفعلي بقدر ما كانت بمثابة حقل ألغام – رغم التوقيع علی الوثيقة – لتأتي التداعيات المتسارعة بعد ذلك لنصل إلی حضرة المشهد الحالي: حرب وصراع وحصار وبوادر انفصال وتدخل سافر أشبه بالاحتلال للإمارات في المحافظات الجنوبية، وركود واضح في العملية العسكرية يرافقه موت سريري للعملية السياسية، ويوماً فيوماً يزداد الوضع في اليمن تعقيداً وغموضاً، إلى الحد الذي يجعل التكهن بسيناريوهات المدى القريب ضرباً من التنجيم، أو الرؤى التي تفتقر إلى العمق المبني على حيثيات منطقية يقبلها العقل.
إنها سيناريوهات سرعان ما تنهار أمام معطيات الواقع المغاير، وتتفرق دماء اليمنيين بين ممسكي خيوط اللعبة، وتزداد معاناتهم حدة بين أطراف يفقد بعضها الفعالية والتأثير، بنفس القدر الذي يفتقد البعض الآخر للمشروع.
ويمكن التركيز علی نقطتين أساسيتين لهما علاقة ماسة بما وصل إليه المشهد الحالي: الأولی ترتبط بخلو المشهد السياسي اليمني من الشخصيات القوية المؤثرة والملهمة التي تجمع بين الفاعلية والتأثير والنزاهة، بينما ترتبط الأخری بانعدام المشروع لهذا البلد من كافة القوی السياسة، حيث يظهر الحال الشخصيات اليمنية التي تتصدر المشهد اليمني السياسي في الداخل والخارج كدمی يحرك كلاً منها طرف معين، أو أنها ليست أكثر من انعكاس لحالة عاطفية انتقامية تحرك تصرفاتها ومواقفها، أما القوی السياسية اليمنية فيبدو أنها تنازلت عن دورها المفترض في تبني مشروع تنافس به وتقدم نفسها من خلاله، لتصبح في حالة ارتهان واضح للداخل أو الخارج.
ولن يكون الخلاص إلا بالقوی الوطنية صاحبة المشروع الحقيقي للمستقبل، والشخصيات القادرة والملهمة غير الملطخة بماض غير مشرف.