الصباح اليمني_ثقافة وهوية|
أولًا: أسباب الحملة وأهدافها:
رغم اكتشاف البطالمة لحركة الرياح الموسمية في المحيط الهندي لكن عدد السفن التي كانت تتمكن من عبور مضيق باب المندب من مصر إلى الهند ظل محدوداً قبل إسقاط الرومان للدولة البطلمية في مصر عام 31 ق.م وضمهم لمصر كولاية رومانية، وكانت السفن التي تتمكن من فعل ذلك لا تزيد على عشرين سفينة، بينما زاد عدد السفن في العصر الروماني إلى ما يقارب ستة أضعاف ذلك العدد، حيث أصبح البحر الأحمر في عهد الرومان آمناً أكثر مما كان عليه في عهد أسلافهم البطالمة.
ويعتبر بعض الباحثين أنه كان من ضمن أهدف الحملة الرومانية على جنوب جزيرة العرب مهمة تطهير البحر الأحمر من القراصنة الذين كانوا يتحصنون بالسواحل العربية لذلك البحر، وهو ما كان يجبر السفن بالسير على شكل قوافل مصحوبة بالحماية العسكرية.
ويذكر الكاتب اليوناني استرابون – الذي كان مرافقا للحملة – أن سبب الحملة التي وجهها “الإمبراطور أغسطس” صوب بلاد العرب تمثل بما سمعه عن ثرائهم منذ زمن بعيد، وأنهم يقايضون بعطرهم وحجارتهم الكريمة الفضة والذهب، وأنهم لا يحتاجون إلى استيراد أشياء من خارج بلادهم، وهكذا كان أغسطس يهدف إما أن يسترضي العرب أو يخضعهم له، بحيث يحصل على أصدقاء موسرين أو يتغلب على أعداء موسرين.
وكان استرابون نفسه قد نقل لنا صورة براقة عن حجم ثراء عرب الجنوب تراكمت عبر الزمن في روايات المؤلفات الكلاسيكية (رغم عدم صحة أكثر ما ورد فيها)، فنجده يحدثنا بأن لديهم كميات كبيرة من مصنوعات الذهب والفضة؛ كالأسِرّة والموائد الصغيرة، والآنية والكؤوس، أضف إليه فخامة منازلهم الرائعة؛ فأبوابها وجدرانها وسقوفها مختلفة الألوان بما يرصع فيها من العاج والفضة والذهب والأحجار الكريمة.
وذلك يدلنا أنه رغم تمكن البطالمة ومن بعدهم الرومان العبور بسفنهم مباشرة إلى الهند إلا أن اليمن كانت لا تزال تحتكر أهم البضائع التي كانت تمثل عماد تجارة طريق اللبان، وهي البضائع ذات المنشأ العربي مثل اللبان والـمُر والصمغ العربي، وإلا لما تجشم الإمبراطور الروماني عناء إرسال حملة عسكرية إلى بلاد بعيدة عنهم، وعبر طرق صحراوية وعرة. وإذا أضفنا لذلك موقع بلاد العرب المتوسط بين الهند وشرق أفريقيا وبين المنطقتين وعالم البحر المتوسط، مع إطلالها على البحر الأحمر ستتضح لنا أهداف تلك الحملة بشكل أوضح.
ثانيًا: تجهيز الحملة ومسارها:
بعد أن تمكن الإمبراطور الروماني أغسطس من ضم مصر إلى دولته وأعلن نفسه إمبراطوراً لروما، كلف واليه على مصر”إليوس جاليوس” بشن حملة عسكرية على جنوب بلاد العرب، وقد دَوّن لنا الكاتب الإغريقي استرابون أخبارها في كتابه الجغرافيا، حيث يمكن إيجاز ما ذكره استرابون عن الحملة بالتالي:
بدأ الإعداد لها في عام 25 ق.م ووصلت إلى جنوب جزيرة العرب في عام 24 ق.م، ويحكي لنا استرابون أن الحملة عبرت البحر الأحمر من مصر إلى ميناء لوكي كومي (ينبع البحر على أرجح الآراء) في الساحل الشمالي الغربي للجزيرة العربية، وكانت الحملة مكونة من عشرة آلاف جندي روماني، مع ألف من الأنباط، وخمس مئة من اليهود، وقد فقدت الحملة الكثير من رجالها وسفنها، التي تمثلت ب (80) سفينة مقاتلة، مع (130) سفينة حمل، بسبب مخاطر الملاحة وخيانة دليلها الوزير النبطي “سيلي/صالح”، وبعد استراحة قضاها الجيش الروماني في لوكي كومي ليتشافى من الأمراض التي أصابته توجهت الحملة براً صوب الجنوب (اليمن).
وبعد وصول الحملة إلى مشارف جنوب الجزيرة تمكنت من احتلال مدينة نجران ومدن منطقة جوف اليمن؛ بعد مقاومة من بعضها واستسلام البعض الآخر، ثم واصلت سيرها نحو العاصمة السبئية مارب، فحاصرتها لمدة ستة أيام.
بعدها قرر الرومان الانسحاب من بلاد العرب والعودة من حيث أتوا، بسبب نقص المياه، والأمراض التي أصابت الجيش الروماني، وليس بسبب مقاومة عرب الجنوب، لكونهم وفق استرابون لم يكونوا أمة حرب لا في البحر ولا في البر، بل ولا يجيدون حتى استعمال الأسلحة التي يمتلكونها!
وقد قطع الجيش الروماني رحلة الإياب من جنوب الجزيرة إلى لوكي كومي في شمالها خلال شهرين، رغم أنهم استغرقوا في رحلة الذهاب ستة أشهر، حيث عاد إليوس جاليوس قائد الحملة إلى الإسكندرية بمن تبقى من قواته بعد أن فقد الكثير من عسكره.
هذا ملخص لما دونه لنا استرابون عن الحملة الرومانية المتوجهة صوب بلاد العرب. وللأسف الشديد فلم يعثر حتى الآن على ما دونه عرب الجنوب عن أخبار هذه الحملة كما جرت العادة مع أحداثهم الأخرى، ولذلك يبقى ما كتبه لنا استرابون مصدرنا عنها.
ثالثًا: دلائل هزيمة الحملة:
عدم وجود كتابات أخرى عن الحملة جعلنا نعتمد في مناقشة ما دونه استرابون عنها على التناقضات التي أوردها، إلى جانب ما بتنا نعرفه من معلومات عن حياة العرب الجنوبيين من خلال نقوشهم المسندية التي تركوها لنا. وسنركز ذلك النقاش في النقاط الآتية:
– من الواضح إصرار استرابون على عدم وجود مقاومة عربية لحملة الرومان، وأن العسكر الرومان الذين فُقدوا إنما كان بسبب الجوع والمرض والإنهاك ووعورة الطرق، ومع ذلك نجده يتناقض مع نفسه في أكثر من موضع، فرغم قوله بأن العرب الجنوبيين لم يُبدوا أي مقاومة لكونهم لا يجيدون القتال، إلا أننا نجده في موضع آخر ومن باب تمجيد الجندي الروماني يحدثنا بأن هذا الجيش قد اصطدم بالعرب عند نهرٍ في منطقة الجوف (غيل وادي الخارد)، وقُتل من العرب عشرة آلاف مقاتل، مقابل فقدانه لاثنين من الجنود الرومان!!
– فإذا كان هذا هو عدد القتلى العرب؛ فكم كان عدد مقاتليهم؟ وكيف تمت هذه المقتلة بين صفوفهم وهم أصحاب الأرض والأكثر عدداً؟! وهم الأدرى بشعابها من الرومان الذين كانوا يعانون من المرض والمجاعة، وكانوا قد فقدوا الكثير من جنودهم قبل أن يصلوا إلى جنوب الجزيرة باعتراف استرابون؟ حتى لو افترضنا بأن المدافعين اليمنيين كانت وسيلتهم في الدفاع عن بلادهم مجرد حجارة؟
– ومادام الرومان قد وصلوا إلى أبواب العاصمة السبئية مارب، فلماذا الانسحاب بعد ستة أيام من الحصار إذا لم يكن هناك مقاومة؟ وإذا كان ذلك بسبب نقص المياه وفق استرابون، فلماذا انسحبوا من بقية الأراضي التي كانوا قد سيطروا عليها (الجوف ونجران) رغم وجود نهر فيها حسب استرابون؟ والمقصود وادي الخارد.
– وإذا كان العرب لا يجيدون القتال فما هي المعركة التي دارت بينهم وبين الرومان عند مدينة نجران أثناء انسحاب الأخيرين من اليمن؟ والتي وصفها استرابون بأنها كانت “حامية الوطيس”، وذلك يدحض أيضاً قوله بأن العرب لا يجيدون حتى استخدام الأسلحة التي يمتلكونها، والتي تمثلت حسب وصفه بالأقواس والحراب والسيوف والفؤوس مزدوجة الرؤوس؛ وهي الأسلحة المعروفة في عصرهم، ومن البداهة أن نسأل استرابون هنا عن فائدة امتلاك العرب لأسلحة لا يجيدون استخدامها؟!
– ثَّم هل يعقل ألا يعلم عرب الجنوب بقدوم الحملة نحوهم ويستعدون لمواجهتها رغم أنها استغرقت ستة أشهر في طريقها إليهم؟ وألَّا يدلنا قطع الحملة لطريق إيابها في شهرين – ثلث مدة الذهاب – على ملاحقات عسكرية كانت تتعرض لها الحملة، بدليل ما ذكره استرابون عن المعركة حامية الوطيس التي دارت بين الجانبين بالقرب من نجران أثناء انسحاب الحملة.
– والملاحظ أنه رغم تهوين استرابون الواضح لعدد قتلى الرومان في المواجهات التي خاضوها مع العرب وحصرهم في سبعة أشخاص، لكننا نجده يذكر بأن قائد الحملة جاليوس قد عاد إلى الإسكندرية “بمن بقي من قواته”، وهي عبارة توحي بقلة العائدين، يؤكد ذلك عدم تحديده لعددهم، رغم حرصه على تسجيل الأعداد في المواضع الأخرى.
وبعد هذه المناقشة السريعة لما دونه استرابون عن الحملة الرومانية على جنوب الجزيرة العربية، يتضح لنا بأن الغزاة الرومان قد واجهتهم مقاومة شديدة أجبرتهم على الانسحاب وعادوا وهم يجرون أذيال الهزيمة، خصوصاً وأن نقوش قدماء العرب الجنوبيين التي تركوها لنا تكَذّب مقولته عن عدم خبرتهم في القتال؛ فهي تتحدث عن حروب كثيرة خاضتها الدول اليمنية القديمة عبر تاريخها في سائر أنحاء الجزيرة العربية، في إطار صراعها وتنافسها من أجل السيطرة على المنطقة ومقدراتها.
والمرجح أن هزيمة الرومان في اليمن هي التي دفعت الإمبراطور الروماني أغسطس لأن يستوعب دروسها، ويترك وصية لخلفائه يطلب منهم فيها الاكتفاء بما وصلت إليه حدود إمبراطوريتهم، والكف عن التوسع أكثر.
وهو ما جعل الرومان ومن بعدهم البيزنطيين يوكلون دولة أكسوم الحبشية لمنافسة الدول العربية القديمة في اليمن.
رابعًا: نتائج الحملة:
على الرغم من فشل الحملة الرومانية وعدم تمكن الرومان من السيطرة على جنوب بلاد العرب إلِّا أنه قد نتج عنها تأثيرات سلبية، حيث تأثرت حواضر الدول اليمنية القديمة الواقعة في الهضبة الشرقية بسبب تحول جزء كبير من التجارة بين المحيط الهندي والبحر المتوسط صوب طريق البحر الأحمر، وتحول درب ما تبقى من تجارة برية صوب القيعان في الجبال الغربية الخصبة، خصوصاً بعد أن اشتدت هجمات الأعراب على تلك الحواضر بعد أن قل دخلهم بسبب تحول الطرق التجارية صوب البحر.
وأدى كل ذلك إلى ازدهار مدن القيعان ومدن السواحل الغربية في القرون الميلادية، وبروز الحميّريين وكيانهم السياسي على حساب دولة سبأ بدرجة أساسية، حيث تمكنت دولة حميّر في نهاية المطاف من توحيد كل جنوب جزيرة العرب (اليمن القديم) تحت سيطرتها وحكمته منفردة بداية من العقد الأخير للقرن الثالث الميلادي.
خامسًا: صلتها بالحملة على عدن:
تجدر الإشارة في نهاية الحديث عن الحملة الرومانية التي أرسلها الإمبراطور “أغسطس” على جنوب جزيرة العرب أن هناك من يتحدث عن حملة رومانية تمكنت من تدمير مدينة عدن، اعتماداً على إشارة وردت في كتاب دليل البحر الإرتيري بأن القيصر تمكن من تخريب عدن التي أسماها مؤلف الدليل (العربية السعيدة) خلال فترة ليست بعيدة من الزمن الذي عاش فيه مؤلف الدليل حسب قوله (وهو مؤلف مجهول).
وقد دارت خلافات كثيرة بين الدارسين حول الحملة المقصودة بين من يعتبرها الحملة الرومانية نفسها السالفة الذكر التي أرسلها أغسطس ووصلت إلى مارب، بينما يعتبرها بعضهم حملة أخرى مع اختلاف في من يكون القيصر الذي أرسلها وفي زمنها، وذلك بناء على التحديدات السابقة التي كانت تجعل زمن تأليف ذلك الدليل تتراوح بين القرنين الأول قبل الميلاد والأول الميلادي.
لكن أحدث التقديرات لزمن تأليف ذلك الدليل تعيده إلى القرن الثالث الميلادي، اعتماداً على ذكره لملوك وأحداث في جنوب جزيرة العرب ثبت من خلال النقوش المسندية أنها تعود إلى ذلك القرن، وهو ما يجعل أخبار تلك الحملة غامضة وغير واضحة المعالم حتى الآن.
خليك معناالمصدر: ملتقى المؤرخين اليمنيين