إنتهت مليونية الجنوب كما بدأت، ولم تنته الأضحوكات المفخخة، وفقاعات الضعف المتوالية مع كل حشد جماهيري مندفع وراء يافطات سرابية لا يملك أصحابها أنفسهم، فضلاً عن قراراتهم وسياساتهم.
لم يملك رئيس «المجلس الإنتقالي الجنوبي» الجرأة ليصرح بالانفصال علناً، رغم أن كل مظاهر هذا الإنفصال مكتملة ومتواجدة واقعاً، بدءاً بشعارات وأعلام دولة الجنوب، مروراً بالدعوة للاستقلال، وانتهاءً بعدم الإعتراف بشرعية الرئيس هادي، الذي جعلت منه دول العدوان مطية وشماعة لتدمير اليمن شمالاً وجنوباً.
ولعل غياب تلك الجرأة يكشف بوضوح أن الناموس الذي تنهل منه حكومة «الشرعية» المزعومة وحيها، هو نفسه الذي يستقي منه «المجلس الجنوبي» إملاءاته، وإلا كيف يزعم هذا المجلس أنه سيقوم بتنفيذ خطوات الإستقلال ضد «الإحتلال»، بالتعاون مع دول «التحالف»، المحتل الحقيقي الجديد؟ وما مصلحته من شق عصا الجنوب بتطرقه للتصنيف الفكري والسياسي الذي جاء على ضوئه قرار حظر نشاط الجماعات الإرهابية في الجنوب، وفي مقدمتها حركة «الإخوان» التي تشارك الجنوبيين قضيتهم، وتملأ صفوفهم في جبهات القتال تحت سقف التحرير؟ وهذا مؤشر آخر يوضح مصدر هذا القرار، وبلد منشأه، بالعودة للتطورات الخليجية الأخيرة، ويؤكد عدم إيمان «الإنتقالي» بالقضية مطلقاً، وعدم وعيه بما قاله الزبيدي في خطبته العصماء التي أراهن على أنها جاءته مكتوبة، وأُسندت إليه مهمة قراءتها فقط.
كيف لأحد من الذين حضروا هذه الفعالية أن يؤمن بقضيته في استعادة ما يسمى بدولته من «الإحتلال»، وهو يسمع من يتبنى قضيته خاطباً: نعلن عن حظر الجماعات الإرهابية والمتشددة المتمثلة في جماعة «الإخوان» و«القاعدة» و«داعش» والحوثي في كل المحافظات الجنوبية، ثم يجعل ذلك مشروطاً بخطوات لازمة التنفيذ، بالشراكة مع «التحالف العربي» و المجتمع الدولي؟
والسؤال: كيف يرفض «احتلالاً» بالتعاون مع احتلال في مليونية تحمل اسم «استمرار رفض الإحتلال»؟ والأهم من ذلك هو اعتبار «الشرعية وجهاً آخر للاحتلال» في الوقت الذي تُعدّ «الشرعية» أداة للإحتلال الخارجي الذي يستعين به «المجلس الإنتقالي» للاستقلال عن «الإحتلال»؟
وبعيداً عن قناعة الجماهير التي خرجت إلى ساحة المعلا، وموقف المعارضين للفعالية، يجمع اليمنيون جميعاً على أن المبالغة في الإقصاء والإلغاء لا تأتي إلا بالمزيد من الإلغاء والإقصاء المماثل، ومع ذلك، لم يكن أحد يتوقع أن يصل الحد إلى إباحة دماء اليمنيين بسبب خلاف سياسي مشبوه.
إن خطيب ساحة المعلا وهو يبيح دماء من يقفون في طريق «الإنتقالي» ويؤيدون «شرعية» فنادق الرياض، يتناسى أنه هو نفسه من ملأ الدنيا صراخاً؛ ومعه كل الجنوبيين، بسبب فتوى رجل دين أفتى يومها باستباحة دماء الجنوبيين الداعيين للانفصال في صيف 94م، التي راح ضحيتها الآلاف، وتأتي فعالية اليوم احتفالاً بذكراها الثالثة والعشرين.
وعلاوة على أن «المجلس الإنتقالي الجنوبي» يحوي بداخله قيادات تتبع الجماعات التي أعلن عن حظر نشاطها، فإن تلك القرارات، وقبلها قرارات مماثلة، لن ترى النور مطلقاً، طالما كانت الحاضنة الخارجية هي التي ترسم خارطة طريقه، وتجعل منه بوقاً للمناورة فقط؛ كل ذلك رغبة في تعميق الصراع الجنوبي وتغذيته أسوة بالشمال، وإقحام القضية الجنوبية في المزيد من القضايا الثانوية العالقة التي من شأنها تأجيل الإستقلال بالمزيد من الإستغلال.