الصباح اليمني_ثقافة وهوية|
سمِعنا كثيرًا عن الخلاف الكبير بين العلماء حول ماهية التاريخ “هل هو علم أم فن”، والحقيقة ما كان ينبغي لهذا الخلاف أن يتسرَّب إلى الأوساط الشرقية العربية، فهو يجوز فقط أن يكون خلافًا عند كل ناطقٍ بالإنجليزية؛ لأنه في الحقيقة خلاف لُغَوي – فيما يزعم الباحث – ولكن قبل التطرُّق إلى كينونة الخلاف نعرض سريعًا: كيف نشأ هذا الخلاف.
نشأة الخلاف:
في الحقيقة بدأ هذا الخلاف في أُخريات القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين؛ حيث قام جدل شديد بين رجالات العلم والتاريخ والأدب في أوروبا في وصف التاريخ بصفة العلم ونفيها عنه، وكان الجدل على أشدِّه في أوروبا وخاصة ألمانيا داخل المجتمع الأنجلوسكسوني – في عصر التنوير الأوروبي – وكان السبب في إثارة هذا الإشكال عندما قام المؤرِّخ الألماني ليوبولد ڤون رانكه (ت١٨٨٦م) بإدخال علم التاريخ إلى أوروبا وجامعاتها، وخصوصًا جامعة “برلين”، محاولًا جَعْلَه تخصُّصًا قائمًا بذاته، فبدأت العديد من الأوساط العلمية في رفض هذه الفكرة، فكانت من الردود المشاعة من قبل رانـكه وأتباعه قولهم: “إن علم التاريخ كعلم الجيولوجيا، فالتاريخ يدرس ماضي المجتمعات الإنسانية، ويدرس علم الجيولوجيا ما في الكرة الأرضية”.
انتقال الخلاف للشرق العربي:
كان من أشهر المؤرخين الذين نقلوا هذا الإشكال الغربي “فرانز روزنثال” في كتابه “علم التاريخ عند المسلمين”، والمؤرخ “هرنشو” في كتابه “علم التاريخ”… إلخ، ثم تأتي المرحلة الثانية في تلقِّي المؤرخين العرب هذا الخلاف دون الوقوف على أسبابه وتحليله، وهل هو بالفعل واقعٌ في اللغة العربية أم لا، فبدأ كلٌّ منهم يعرض نفس الخلاف في كتابه، ويقوم كالمعتاد في ترجيح رأي من الرأيين علمٌ أو فن، وكان من أبرزهم المؤرخ “قسطنطين زريق” في كتابه “نحن والتاريخ”، والمؤرخ “حسن عثمان” في كتابه “منهج البحث التاريخي”، والمؤرخ “أحمد محمود صبحي” في كتابه “في فلسفة التاريخ”، ثم تَسَلَّم الجيل الحالي من المؤرخين نفس الخلاف، فقاموا بعرض الآراء وعدم الترجيح على الأغلب.
لماذا أصل الخلاف لُغَوي؟
لَخَّص هذا الخلاف “إدوارد كار” في أنه خلاف لُغَوي بحت عندما سُئل عن ذلك، فكان جوابه “هذا السؤال الاصطلاحي هو بسبب شذوذ في اللغة الإنجليزية”؛ حيث إن جميع اللغات الأوروبية الأخرى يدخل لفظ “التاريخ” في لغاتها تحت لفظ “science _ علم ” بلا تردُّد، أما في اللغة الإنجليزية فلفظ “science” مقصورٌ على المعنى الآتي “النشاط الفكري المشتمل على الدراسة المنهجية لِبنية وسلوك العالم المادي الطبيعي من خلال المراقبة والاختبار”.
فهذا التعريف إذًا لن يدخُل فيه العلوم الإنسانية بما فيها علم التاريخ، وما دام التاريخ لن يدخُل تحت لفظ “science” إذًا سوف يدخُل تحت اللفظ البديل والمضاد له وهو “art – فن”، الذي معناه في اللغة الإنجليزية الآتي “حقل دراسة مهتمٌّ بشكل أوْلى بالثقافة الإنسانية” “مهارة تُكتَسب بالدراسة والتطبيق والمراقبة”.
فإذًا الخلاف لُغَوي في اللغة الإنجليزية بسبب شذوذ فيها عن باقي اللغات الأوروبية … فهذا ملخَّص الخلاف في اللغة الإنجليزية.
أما لو نظرنا إلى اللغة العربية، فسوف نجد أنه ليس ثمةَ خلاف بين لفظ “فن” و”علم”، وأنهما تقريبًا بنفس المعنى كما سنَعرض، فيُقال في اللغة العربية: “فن واحد من الفنون”؛ (أي: من العلوم)، و”ضَرْبٌ من الشيء”؛ أي: نوع من العلوم.
أما عن “العلم” في اللغة العربية، فهو نقيض وعكس الجهل وليس عكس الفن؛ ولذلك قال ابن خلدون في المقدمة عند حديثه عن الفنون التي يجب أن يُتقنَها المشتغلون بالمواريث: “ومن المصنِّفين من يجنح فيها إلى الغُلوِّ في الحسبان، وفرض المسائل التي يحتاج إلى استخراج المجهولات من (فنون) الحساب؛ كالجبر، والمقابلة، والتصرُّف في الجذو”، فهو يجعل لفظ فنون بمعنى علوم، وكذلك يقول ابن الأبَّار عند ترجمته لعلي بن سليمان الزهراوي: “وكان عالِمًا بالهندسة والعدد، غلب عليه علم ذلك في فنون منها الطب”.
والأمثلة على ذلك كثيرة جدًّا، ولعلَّ هذا الطرح يفيد في حلِّ الإشكال الذي واجه أستاذنا الدكتور إبراهيم سلامة – بارك الله في عمره ونفع به – عند قول ابن خلدون في المقدمة: “فضل علم التاريخ”، ثم يقول في نفس الوقت: “اعلم أن فن التاريخ”، وهذا كما عرَضنا؛ لأن الفنَّ من معانيه العلم، ولهذا قال السخاوي في كتابه “الإعلان بالتوبيخ”: “فلما كان الاشتغال بفنِّ التاريخ للعلماء من أجَلِّ القُرُبات، بل من العلوم الواجبات”.
وأرجو في نهاية هذا المقال أن أكون وُفِّقْت في عرض الداء وسقاية الدواء، فما كان من صواب فمن الله، وما كان من خطأ وذلَلٍ فمن نفسي، وأسال الله جل جلالُه أن يكون هذا العمل خالصًا لوجهه، وأن ينفعَنا به دنيا وآخرة، والسلام عليكم ورحمة الله.
خليك معناالمصدر: الألوكة الثقافية