منذ بداية الإنفتاح السياسي – النسبي – الذي فرضته اتفاقية الوحدة في العام 90، والتي بدأ معها عهد التعددية السياسية، لم تستطع قيادة “تجمع الإصلاح” (الإخوان المسلمون) استيعاب هذا التحول الديمقراطي، سواء على المستوى التنظيمي الداخلي، أو على مستوى النقد السياسي للسلطة وفلسفة الحكم، وتوقفت عند مفاهيم ورؤية حسن البنا في منتصف القرن الماضي، وسياسة “استعينوا لقضاء حوائجكم بالكتمان”، وهدف إعادة كتاب الله إلى منصة الحكم أو إيصال كتاب الله إلى قلب الحاكم… إلخ.
“الإصلاح”، التجمع السياسي، كما تقول أدبياته، ذو المرجعية الدينية، لا يُتوقع أن يمارس العمل السياسي إلا بأدوات الحركات الدينية، بل ويتوكأ في ممارسته العمل السياسي على عكاز السلطة الدينية، ممسكاً عصاها من المنتصف، ويدير أفراده كجماعة على ذلك المنوال بامتياز، ولم يستطع الفصل بين مرجعية فلسفته كحزب من أحزاب الإسلام السياسي كما يدعي، وبين وصفه حركة دينية تمارس عملاً سياسياً.
لقد حمل “الإصلاح” أدوات العمل السري التي كان يعمل بها قبل التعددية الحزبية، ومفاهيم “الإخوان المسلمين” بحذافيرها؛ فهو حتى الآن ما زال يكرس لغة وسياسة العمل التنظيمي لممارساته كجماعة دينية، تنظر إلى أتباعها باعتبارهم دعاة ومريدين، وبالتالي تعتبر أبناءها بشكل عام، وبالأخص الأكثر التزاماً بأوامر الجماعة، هم الأكثر نقاء في المجتمع، ولهم الأفضلية في الحقوق والامتيازات التي يحصدونها من التقاسمات السياسية، ولو على حساب الحقوق المكتسبة لأفراد المجتمع، ويتضح ذلك في توصيات وترشيحات الحزب لشغل الوظائف العامة.
وتلك المفاضلة تكرّست حتى داخل الحزب نفسه؛ فالأفضلية داخلياً تؤول إلى المقربين من القيادة، وقوة اللوبي الداخلي التجاري أو القبلي، ثم المرتبة التنظيمية التي تخضع لتوصيات الأعضاء المسؤولين عن الدوائر الأصغر فالأصغر، ثم مدى التزام الفرد بأوامر القيادة. ذلك السلوك التنظيمي الديني يفسّر نفور كثير من شباب الأحزاب الأكثر ليبرالية وانفتاحاً، بل وعدم تواجد من ظل منتظماً في أماكن قيادية، خاصة مع أخضاع الديمقراطية الداخلية للأوامر التنظيمية، واستبداد سياسة العلاقة الرأسية ذات الإتجاه الواحد بين القيادة والأعضاء، بالإضافة إلى الممارسات العملية للوبيهات الفساد التي تتناقض مع الخطاب والشعارات الإعلامية للحزب ضد الفساد، وتمارس الإقصاء حتى وهي تصطف مع الثورة ضد النظام السابق، أو مع الشرعية ضد الإنقلاب.
ولا يختلف اثنان على أن “الإصلاح” ذو قاعدة جماهيرية كبيرة، عمل على أدلجتها دينياً بتلك السياسات الداخلية القائمة على مفاهيم السمع والطاعة والتضحية والجهاد… إلخ، ولذلك ساهم بالدفع بكثير من أعضائه إلى جبهات القتال، وخسر الكثيرون حياتهم، ودفع كثير منهم ثمناً لذلك من أموالهم وممتلكاتهم، نتيجة تغول حركة ميليشيات دينية متطرفة، تستخدم أدوات وسياسات جماهيرية مشابهة، ولكنها أكثر تطرفاً وإقصاءً.
وذلك الثمن لا يقتصر على “الإصلاح” الأشد تضرراً فقط، بل شمل كل القوى السياسية، أو الأفراد المناهضين لميليشيات الحوثيين، ولم يستفد من الوضع سوى الجماعات الإرهابية، التي وجدت متنفساً ومناخاً مناسبا للتمويل، واستطاعت تعزيز تواجدها وهيمنتها.
إن تعامل الأحزاب السياسية بشكل عام، وحركات الإسلام السياسي (الإنتهازية) مع مفردة الديمقراطية، واستخدامها للاستهلاك الإعلامي، ميز السلوك الحزبي في العالم الثالث، ومنه أحزاب المشهد السياسي اليمني دون استثناء؛ فالديمقراطية لدى تلك الأحزاب وسيلة مهمة للوصول إلى السلطة، ولا تسبب الخسائر، وفي الوقت نفسه فهي مستعدة لقطع يد الديمقراطية إذا كان هناك احتمال بسيط لأن تسقطها.
كما أن الديمقراطية الداخلية في تلك الأحزاب والتنظيمات شبه مستحيلة، وتظل ديكورية – كأن يفرضها القانون -، وتمارسها هي لشرعنة استمرار القيادات في مناصبها الحزبية، وبذلك استطاعت تلك القيادات أن تحافظ على مواقعها الحزبية في كل انتخابات داخلية تجريها، صانعة منها نسخاً مصغرة للنظام، وجاعلة منها إقطاعيات خاصة بها، قاطعة الطريق على أي إمكانية لضخ دماء جديدة. والحقيقة المرة أن رأي القاعدة الجماهيرية (الأعضاء) لتلك الحركات والأحزاب لا قيمة له، وهو مرهون برأي القيادة التي احتكرته، بل ووضعت نفسها في أبراج عاجية تحكر لنفسها اتخاذ القرارات والمواقف، ويُنظر إليها بالتبجيل.
تلك القيادات الهرمة ظلت تدور في دائرة مغلقة، تهادن السلطة والفساد فيها، وتغض الطرف عنه، وأحياناً تساهم فيه، أو تنشغل بقضايا جانبية في أحسن الأحوال، على مدار عقود من الزمن، وفي حقيقة الأمر أنها غير قادرة – أو لا تريد – أن تمتلك حلولاً عملية جادة تخاطب بها العامة، وتواجه بها فشل الأنظمة الإستبداية، وفسادها المالي والإداري، بل إنها ظلت أيضاً تسقط في كل اختبار لها في السلطة؛ إذ تصير ضمن فريق عمل النظام الإستبدادي الذي هادنته ورضي عنها، وذلك ما نشاهده بدرجات متفاوتة في ممارسات قيادات المشهد السياسي اليمني.