بتّ على اعتقاد جازم بأننا كصحافيين في الوطن العربي نسير أو نُسيّر كثور ساقية، شعرنا بذلك أو لا. وصار شعار أغلبنا – إلا من رحم ربي – «آكل من صحن الحاكم، إذن أضرب بسيفه».
ومن منطلق ذلك، فالقضايا التي يتم تناولها اليوم على صفحات الجرائد أو في مواقع التواصل الإجتماعي لا تخرج عن دائرة الساقية العبثية تلك، ومهاوي الإصطفاف والانحياز لأطراف الصراع، سواء تلك التي تتناحر اليوم في ما بينها عسكرياً بمختلف أنواع الأسلحة في ملهاة لا هدف محدداً لها سوى القتل والتدمير وإفراغ الأمّة تالياً من مصادر قوتها، أو تلك القوى السلبية التي آثرت الإنعزال والانسحاب إلى المدرجات طلباً لسلامة الرأس.
ومع غياب المشروع الوطني، وانحسار التيار المدني لصالح المشاريع الخاصة المدعومة بقوّة من قبل القوى المتصارعة والأجندات المتقاطعة، أُفرز واقع عربي جديد تتسيّده الرويبضات والمنتفعون والمتسلقون، الذين يجرى تسويقهم وصناعتهم بمسميات مختلفة، وتقف خلفهم إمبراطوريات ومطابخ إعلامية عابرة للقارات وبميزانيات جبارة. ويُقدّم هؤلاء للأمة باعتبارهم قادة المستقبل، والثوار الجدد، وحاملي رايات التغيير، ومسميات أخرى عديدة.
ومن هنا، بدأت الطامّة؛ حيث خلت أو أُخليت الساحة الإعلامية لعشرات آخرين من المتملقين والناعقين وأصحاب الأصوات العالية، ممن سمّوهم محللين ومتخصصين، ليتصدروا هم المشهد الإعلامي العربي، ذاهبين به باتجاه أنفاق سحيقة طمرتها الأمّة بكفاحها ونضالها منذ عشرات السنين، وكان نتاج ذلك كله خلق عشرات الفضائيات الطائفية، ومئات المواقع المدفوعة التي أريد لها أن تكون منابر للسب والشتم والتحقير والتقليل من الخصوم، ومن عارض ذلك نعتوه بالرجعية والعمالة، لنستفيق الآن على واقع إعلامي جديد، مقسّم بين طرفين أو أكثر، مجبرين على
سماع برامج السباب والشتائم التي أطلقوا عليها مجازاً «ثورة الإعلام الجديد»، الرافعة لرايات الحرية والديمقراطية والرأي الآخر. في المقابل، كانت الناس قد ملّت الخطابات الرسمية الرتيبة، والوجبات الجاهزة الممجّدة لشخصيات كرتونية فارغة وأنظمة فاسدة. وسطية غائبة
يجد المواطن العادي البسيط نفسه مجبراً على الاختيار بين النموذجين بسوأتيهما. وفي الوقت الذي كان من الواجب والمفروض والمهم أن تنتفض فيه الشخصيات الوطنية الواعية لتقوم بدورها التنويري مستغلّة اللحظة التاريخية للبدء بإرشاد الناس إلى الحق وطريق الهدى والسداد، لتتوضّح للعامة خطورة المضي والسير مع المشروع التدميري المرتدي عباءة التغيير عبر تفجير الجميع، وبين المشروع التحنيطي المناوئ للمشروع الأول، لم يحدث ذلك؛ إما تخاذلاً، أو لغياب الأدوات والإمكانات أمام قوّة وإمكانات المشروعين الآنفين، وسرعة الأحداث، وتوالي المتغيرات.
وبين عشيّة وضحاها، أصبحت الغلبة والكلمة والسيطرة للغوغاء، ومن ورائهم سيوف جز الرقاب الحاكمين بأمر الله، والذين تقاطروا من كل حدب وصوب بسرعة رهيبة، وأمامهم جيوش وفرق وفصائل، وفوق الجميع مئات الطائرات وعشرات الأقمار الصناعية، تشارك في نقل حفلات وحمامات الدماء المطلولة على طول وعرض الوطن العربي، ليجد المواطن العربي نفسه في واقع رهيب، بلا ملامح أو تسميات، متقبلاً خبر مقتل أكثر من 150 شخصاً، بينهم نساء وأطفال، في تفجير انتحاري، يقاطعه قبل استماع لباقي تفاصيله، طالباً من صاحب البقالة سرعة إتيانه بعلبة دخان. نعم… نظرية المؤامرة
على الرغم من أنني لست من هواة المصارعة الحرّة التي أعتقد بأن تفاصيلها تُطبخ من قبل المنظّمين في غرف مغلقة، فقد تسنّت لي مشاهدة جولة دموية داخل حلبة أحيطت بأسلاك من جميع الجهات. وفي داخل تلك الحلبة، حُشر أكثر من عشرة مجالدين أو مصارعين يتقاتلون في ما بينهم، والنصر والفوز يكون لمن يتمكن من البقاء بعد أن ينهك الجميع.
وأغرب من ملحمة الأسلاك الغبية تلك، وجود مئات الآلاف يشاهدونها بحماس، وأضعاف أضعافهم يتابعونها باستمتاع عبر الأثير، حتى انتهاء تلك الرياضة المنسوخة من العصر الروماني، حيث كانت تُقام حفلات الموت التي يتقاتل فيها عشرات السجناء مستخدمين الخناجر والسيوف وأسياخ الحديد حتى الموت.
ورب الكعبة، وعبر نظرية المؤامرة، إنني بتّ أخشى من أن واقعنا العربي اليوم أضحى صورة مكبرة لحلبة الموت الرومانية تلك. وأخشى ما أخشاه أيضاً أنه، في نهاية المطاف، لم يخرج أي منّا منها منتصراً، ومن في المدرجات ليس بينهم عربي واحد إلا ممن ارتضى وخان.