الصباح اليمني_مساحة حرة|
الموت والحياة وجهان لعملة واحدة وفي صراع جدلي لا يهدأ. ينتصر الموت على الحياة بالأفراد، وتنتصر الحياة على الموت بالجماعات. وصرخة الميلاد هي أول خطوة يقطعها الإنسان في طريقه إلى حشرجة الاحتضار. لذلك ليس في موت ملكة بريطانيا ما يثير الفرح ولا ما يبعث على الأسى، فتلك مشيئة الله في خلقه، ولا يدوم إلا الخالق العظيم.
لكن ما يثير الحيرة ويبعث على التعجب والاستغراب والاشمئزاز هو تسابق أذيال تحالف العدوان في ماراثون بعث برقيات التعازي المعبرة عن «هول الفاجعة» التي مزقت أفئدتهم حزناً على رحيل ملكة كانت -كما زعمت برقيات التعازي- رمزاً إنسانياً لا شبيه له في تاريخ البشرية، متناسين أن للشعوب ذاكرة لا تمحى، وأن إليزابيث كانت ملكة لمملكة أذاقت الشعوب المستضعفة شتى أصناف القهر والهوان والإذلال، واستعمرت وقسمت أوطانهم وفقا لمقتضيات مصالح التاج البريطاني المرصع بأحجار الماس المنهوبة من مناجم شعب جنوب أفريقيا الذي كان فيه نظام الفصل العنصري المسنود بقوة ونفوذ الإمبراطورية الاستعمارية لا يكتفي بتعذيب أبناء ذلك الشعب بوسائل التعذيب التقليدية المتبعة من قبل الأنظمة الاستعمارية والاستبدادية، ولكنه ابتكر تعذيبا غريبا يليق بهمجيته وعنصريته وبوحشية داعميه من الأنظمة الاستعمارية، مثل اعتقال المقاومين لعنصريته وتقديمهم وجبات للكلاب المسعورة المدربة على افتراس البشر وأكلهم أحياء…!
أتباع أبوظبي والرياض أغمضوا أعينهم وكتبوا برقيات التعازي بسخافة وغباء جعلهم لا يضعون اعتبارا لحقيقة أن الملكة الراحلة حرصت على أن يلتقط لها مصوروها صورا وهي منتشية تتنزه في بدروم قصرها الملكي الذي يحتوي على آلاف سبائك الذهب المنهوبة من العراق، ولم تنسَ أيضاً أن يلتقطوا لها صورا تذكارية وبجانبها بيانو عراقي مصنوع من الذهب الخالص، أيضاً نهبه جيشها الإنساني أثناء غزوه للعراق!
والمفارقة الأكثر غرابة أن يقفز قادة «المجلس الانتقالي» على مائة وأربعين عاما من الاستعمار البريطاني لجنوبهم، وعلى آلاف الشهداء الذين قدموا أرواحهم في سبيل التحرر من هيمنة التاج الاستعماري الذي رحل ولم يكفّ عن التدخل في شؤون مستعمرته القديمة؛ ولكنهم قفزوا على كل تلك الحقائق وذهبوا يسفحون دموعهم حزناً على رحيل ملكة وقفت ذات يوم بغرور على رصيف شارع عدني تلقي بقطع النقود على الأرض ليتزاحم الأطفال الفقراء لالتقاطها، وهي مستمتعة بمشهد أولئك الأطفال الذين سرقت مملكتها وطنهم ولقمتهم.
لست سعيداً ولا حزيناً بموتها؛ لكن الاستخفاف بما اقترفته بريطانيا في عهد ملكتها الراحلة بحق شعوب الأرض أمر يثير الاشمئزاز.
المصدر: مقال منشور للكاتب بصحيفة (لا) الأسبوعية