الصباح اليمني_مساحة حرة|
بصرف النظر عما إذا كانت الذاكرة المشتركة الجزائرية الفرنسية، تقع بحق على رأس اهتمامات الطرفين أم لا، فإن الواضح في شأنها أنها عنصر من عناصر اللعب والتلاعب السياسي من حكومتي البلدين على الشعوب والنخب المهتمة بالماضي كون عنصر الذاكرة، يشكل أساس الحاضر عبر الصعد كلها، الثقافية والاقتصادية والسياسية.
لكن السؤال الملح الذي تفرضه سياقات الجدل التاريخي – السياسي الذي سبق ثم أعقب زيارة ماكرون الأخيرة للجزائر، لماذا لا تتم إثارة مسألة الاعتذار من جرائم الاستعمار الفرنسي للجزائر أمام المسئول الفرنسي الأول، إعلاميا، سياسيا وحتى شعبيا؟
صحيفة “الوطن” الناطقة بالفرنسية، التي بعد أن توقفت بسبب مشاكل مالية، يبدو أن نداءات الاستغاثة التي أطلقتها من أجلها مؤسسات إعلامية فرنسية أبرزها صحيفة “لوموند” عدة مرات: قد وجدت أذانا صاغية، فعادت للصدور مؤخرا، تناولت في افتتاحية عن مضمون الزيارة، مشيرة في معرض ذلك لمسألة الذاكرة بالتساؤل عن سبب تراجع إيمانويل ماكرون عن موقفه الأول من إشكالية الاستعمار وجرائمه التي سبق وأعلن عنها في حملته الانتخابية الرئاسية للولاية الأولى، وعما إذا كان السبب في ذلك هو نقص في الشجاعة، أم أنه ينتظر في هذا الشأن الوقت المناسب ليبصم على حضوره في التاريخ السياسي الفرنسي خصوصا وأنها في ولايته الرئاسية الثانية والأخيرة؟ .
مثل هكذا تساؤلات من نخب الاعلام بالجزائر يكشف عن عمق فقدان الدراية بالعلاقة الوطيدة والوثيقة القائمة بين المسئوليتين السياسية والتاريخية في الاطار الرسمي للدولة، باعتبارهما ارثا وتراثا وطنيين وهي الحالة المفتقدة عربيا، حيث يكون بوسع التصرف السياسة تاريخيا وبالتاريخ سياسيا وخارج الإرادة الوطنية أحيانا وبلا حرج أو مرج.
منْ منَ الجزائريين مثلا لا يذكر الاعتذار الذي قدمه عبد العزيز بوتفليقة للرئيس السابق أحمد بت بلة على الانقلاب العسكري الذي أطاح من خلاله بومدين بنظامه سنة 1965 وذلك وسط سكوت وسكون مطبقين من ساسة اللحظة (الانقلابية) وشخصيات حزبية (الحزب الواحد) كانت كلها مسئولية تاريخية في ذلك وأشادت لعقود بما كانت تسميه بـ(التصحيح الثوري)؟
لقد كرس ذلك الاعتذار المعزول عن الإرادة الحزبية (جبهة التحرير الوطني) والمؤسسية (المؤسسة العسكرية) وخصوصا الإرادة الشعبية المغيبة دوما، حقيقة غياب سلطة المؤسسة باعتبارها حجر الزاوية في ثقافة الدولة وشاكلة سيرورتها، تلك الحقيقة وذلك الغياب هما من جعل بوتفليقة في بداية حكمه يقول يوما “أنا المُجسد للجزائر والجزائر مجسدة فيّ”!
بينما مثل هكذا موقف وتصرف، لا يمكن أن يصدر عن مسئول رسمي فرنسي بمضي وظيفيا في سياق خطاب معلوم ومرسوم ومرسّم بشأن الذاكرة، فلا يمكن أبدا والحال هذه توقع أن يظهر رئيسا في قلب ولايته بالاليزي، من أي تيار سياسي كان، يعتذر للمارشال بيتان ونظامه الموازي الموالي للنازية الذي أقامه بفيشي، ببساطة لأن التاريخ والسياسة إرث مشترك ووطني يسمو على الإرادة الفردية مهما ادعت من بعد نظر وعبقرية سياسية وقدرة على تحقيق الاجماع!
لهذا لا يصح التعامل مع مسألة الذاكرة بالإسفاف الإعلامي والسياسي الاستهلاكيين، طالما أن من في الواجهة أو المواجهة خصم فرنسي منسَق غير ممزق في بناه المؤسسية وخطابه الوطني، في حين العكس تماما هو الحاصل مع الشأن الجزائري، حيث صراعات ونزاعات النخب والتيارات حول حقائق الهوية وشاكلة حضور أسئلتها في خطاب البناء الوطني تدور في فضاء غير محدود ولا مسقوف من الزمن والتاريخ.
عبثية المشهد العربي حيال مسألة التراث السيادي والسياسي المشترك وكيف يتصرف فيه الحاكم بالرعونة الفردية بسبب غياب روح وثقافة الدولة ومسئوليتها لم يتوقف عند التاريخ وشأن الذاكرة بل سبق وان امتد إلى الجغرافيا، وأفضح من جسدها كان الرئيس المصري الحالي عبد الفتاح السيسي الذي قطع من لحم الجغرافية المصرية تيران وصنافير وقدمهما هدية للسعودية، مع القمع الشديد لمن اعترض أو أبدى ملامح الرفض !!
قدسية الدولة وثقافتها هي ضالة العقل السياسي العربي الذي لا يزال يهمش عبقرية المجتمع والجماعة الوطنية في التأسيس لنسق وطني شامل وعام، ويركز على سلطة وعبقرية الشخص لا باعتباره ملاذا للحاضر والمستقبل فحسب، بل أيضا للماضي، إذ يوسعه التصرف فيه كيف شاء ومتى ما شاء تفسيرا وتأويلا وتقنينا، وأعظم ما قد يخرب الأمم والأوطان هو التدخل خارج الاجماع في تراثها وذاكرتها، والنازية الالمانية التي أوعزت كذبا للجنس الآري مسئولية قيادة العالم والناس، عبر الزعامة الفردية لهتلر والقوميات الأخرى التي تلته بسوء وإجرام في مدارج التاريخ منها في محيطنا العربي عبر القومجية الفاشية للبعث في سوريا والعراق، وفي افريقيا أين حاول موبوتو سيسي سيكو في الكونغو أن يمح ماضي بلده ليبدأ تاريخ الأمة فيه أو يكاد مع تولي هذا الأخير للحكم بإرادة استعمارية !
إذن يتضح مما سبق أننا بإزاء نمطين من ثقافة الدولة يتنازعان مشترك الذاكرة، أحدها مهتد بإطار رسمي مغتن بتراث من ممارسة المسئولية وفق أبجديات الممارسة والخطاب المؤسسي، من محوريته يبدأ وإليها ينتهي، والآخر تتلاشى فيه روح المسئولية الجماعية ويحضر فيه الفرد بحسبانه محور الوعي لا بل ومنتجه في عمر الأمة ! وعليه يبدو من العبث والاستحالة أن تنال الأمة حقوقها من جدل التاريخ المشترك هذا، ولعل ذلك يظل مؤجلا إلى زمن قادم يكون متوجا بنضوج التام، عام وهام خاصة للوعي، بالتاريخ، بالدولة ولا سيما بروح المسئولية المؤسسية غير الفردية فيها!
خليك معناالمصدر: صحيفة رأي اليوم