الصباح اليمني_مساحة حرة|
تعود علاقة اليمن بمكة المكرمة إلى فترات تاريخية مبكرة ممتدة من عهد الدولة المعينية والسبئية والحميرية ولقد حكمت مكة بالتاريخ القديم قبيلتان يمنيتان هما جرهم وخزاعة.
اما فيما يتعلق بصلة اليمنيين بكسوة الكعبة المشرفة فتكاد المصادر التاريخية تجمع على أن هذه الصلة تمتد إلى عهد ملوك الدولة الحميرية اليمنية .
– أول كسا
فكان أول من كسا الكعبة المشرفة بالتاريخ القديم هو الملك الحميري تبع أبو كرب الملقب ( أسعد الكامل ) فكساها ب( الملاء والوصائل ) وهي ثياب موصلة من ثياب اليمن وجعل لها باب ومفتاحا.
وقد أوردت لنا المصادر التاريخية شعرا منسوبا إليه يشير فيه إلى رحلته من اليمن إلى مكة المكرمة وإقامته بها وما قام به من أعمال خيرية فيها ومن أهمها كسوته الكعبة المشرفة فأنشد تبع حين كسا الكعبة :
وكسونا البيت الذي حرم الله مُلاء معضدا وبرودا
فأقمنا من الشهر عشرا وجعلنا لبابه إقليدا
ونحرنا بالشعب ستة ألف فترى الناس نحوهن وردا
ثم سرنا عنه نؤم سهيلا فرفعنا لواءنا معقودا .
وتبعه خلفاؤه من ملوك دولة حمير فظلوا يكسون الكعبة زمنا طويلا .
وفيما يخص التاريخ الإسلامي أشار المؤرخون إلى الجهود التي نهض بها ملوك الدولة الرسولية تجاه الكعبة المشرفة كسوة وغسلا وتطييبا وترميما لما للكعبة المشرفة من أهمية في نفوس المسلمين باعتبارها مهوى أفئدتهم وقبلتهم التي يتجهون إليها في كل صلاة .
فالدولة الرسولية حكمت اليمن بين عامي 626- 858 هجرية / 1228 -1454 م وخلال هذه الحقبة التاريخية التي تقدر بحوالي قرنين وثلث القرن تعاقب على حكمها مجموعة من الملوك كان لعدد منهم مآثر خيرية جليلة في الأماكن المقدسة بالحجاز – بل بسطوا سيطرة الدولة الرسولية على الحجاز واشرفوا على مكة المكرمة والمدينة المنورة وايضا الطائف – وكذلك اهتموا بكسوة الكعبة المشرفة وغسلها وتطيبها فضلا عن كسوة الحجرة النبوية الشريفة على صاحبها أزكى تحية وسلام.
ومنذ دب الضعف في الدولة العباسية حتي سقوطها كانت كسوة الكعبة المشرفة ترد تارة من سلاطين مصر وتارة من ملوك بني رسول في اليمن ثم بعد سقوط الدولة العباسية سنة 656 هجرية الموافق 1258م تشرفت الدولة الرسولية بكسوة الكعبة المشرفة وانفردت بذلك دون غيرها .
– تعظيم وتخليد
كانت اليمن منذ التاريخ القديم وحتي عصر الدولة الرسولية تعد مصنعا لكسوة الكعبة المشرفة .
ففي العصر الرسولي كانت كسوة الكعبة المشرفة تُصنع من الحرير المنسوج وأحيانا من القطن المصبوغ باللون الأسود وبالنسبة لطراز الحزام فقد كان ينقش عليه كتابات بخيوط ذات لون أبيض وبخط النسخ مع تثبيت هذا الحزام في الربع الأعلى من ثوب الكعبة وهناك من ذكر بأن طراز الحزام من خيوط الذهب فالمسلمون اهتموا بزخرفه كسوة الكعبة بكتابه آيات قرآنية على حزامها وفي العصر الرسولي اهتموا بهذا الأمر أيضا – وذلك لبيان دورهم وتخليد لأسمائهم – وقد كان يكتب على كسوة الكعبة المرسلة من اليمن في العصر الرسولي في الجانب الشرقي للحزام ( إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ) آل عمران , الآية : 96-97 .
وفي الجانب الغربي ( وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) البقرة , الآية : 127- 128 .
اما في الجانب الجنوبي (جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) المائدة , الآية : 97 . وفي الجانب الشمالي نقش عليه اسم الملك الرسولي وتاريخ أمره بصناعة الكسوة مع الدعاء له وأن يتقبل الله منه هذا العمل .
وكان من ضمن الكسوة التي أرسلها بنو رسول إلى مكة المكرمة كسوة لمقام إبراهيم كُتب عليها ( بسم الله الرحمن الرحيم اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آله وأعز عبدك الفقير إلى رحمة الله سبحانه يوسف بن عمر بن علي بن رسول ) .
اما فيما يتعلق بالدار التي صنعت فيها الكسوات الرسولية للكعبة المشرفة فمن المرجح انها كانت تتم في دار الصناعة في عاصمة الدولة الرسولية مدينة تعز .
-الركن اليماني
لم يقتصر انفاق بني رسول على الكعبة وكسوتها وإنما تعهدوا بجميع مكونات الكعبة بالترميم والاصلاح بما في ذلك بابها فقد أمر الملك المظفر بصناعته وجعل له قفلا وحلاه بالذهب والفضة على يد نائبه على مكة المكرمة ( ابن التعزي ) وكان وزن باب الكعبة المشرفة ستون رطلا من الذهب والفضة .
وكتب على هذا الباب في الفردتين اسم الملك المظفر وفي إحدى جهاته مكتوب ( اللهم يا ولي يا علي اغفر ليوسف بن عمر بن علي ) ولقد ظل هذا الباب الذي عرف بباب الملك المظفر لمدة سبع وستين عاما قبل ان يستبدله السلطان المملوكي محمد بن قلاوون سنة 1332م .
وقد عمل الملك المجاهد الرسولي على تحليه باب الكعبة الذي عليها وقد وجد اسمه مكتوبا في اعلى الحائط الذي فوق باب الكعبة من داخلها .
وحينما انكسر جزء من الركن اليماني رممه الملك المظفر عام 680 هجرية الموافق 1281م وبطن جدران الكعبة بالرخام ووثق ذلك بنص وسط الجدار الغربي قال فيه : ( …… أمر بتجديد رخام هذا البيت المعظم العبد الفقير إلى رحمة ربه يوسف بن عمر بن علي بن رسول ثم دعاء له وختم ذلك بتاريخ عمارة الرخام ) .
-شرف عظيم
كذلك اهتم ملوك الدولة الرسولية بمرافق الكعبة والحرم سواء في توفير المتطلبات الاساسية أو تأثيثها سواء بالفرش او القناديل للإضاءة وخصصت لذلك مبالغ مالية من ميزانية الدولة الرسولية يتم إرسالها سنويا إلى مكة .
حيث ارسل الملك المنصور عمر بن علي بن رسول عام 632هجرية الموافق 1234م بقناديل للكعبة المشرفة مصنوعة من الذهب والفضة وأرسل معها سلاسل من حديد لتعليقها في الحرم كم تم صناعة حُصر للحرم الشريف وارسال الشمع والعُطب الذي يعمل منه العاب نارية للاحتفال بعيد الأضحى وكذلك ارسال المطارق والمجارف والحبال الخاصة بشد وتثبيت كسوة الكعبة بالإضافة إلى (السليط) زيت للإضاءة وأقفاص الزجاج .
وبذلك عدت الدولة الرسولية اليمنية أول دولة كست الكعبة المشرفة بعد سقوط الخلافة العباسية في بغداد على يد المغول وهو شرف عظيم سجله التاريخ لهذه الدولة اليمنية والتي كادت أن تتولى زعامة العالم العربي والإسلامي آنذاك .