| بقلم:أسعد أبو خليل|
تغيّرت السياسة في الخليج. أحدث عصر محمد بن سلمان — وراعيه محمد بن زايد (ورعاتهما في اللوبي الصهيوني في واشنطن) ثورة في المنطقة لم يسبق لها مثيل. تغيّرت السياسة والإعلام والحروب منذ قدمهما على الساحة. تآلفهما ربط مصير العالم العربي بمصيرهما، وواشنطن تراقبهما بتحفّظ وقلق لكن لا خيار لها إلا المباركة. وانفجار الصراع الخليجي أدخل أدوات اشتباك لم يشهدها العالم العربي منذ الستينيات.
السياسة في الخليج تجري على مستوييْن: المستوى الأوّل هو مستوى التكاذب وحكّ الأنوف والعناق والإغداق في المدائح الأخويّة والتنويه بالروابط الخليجيّة القويّة وشد أواصر التعاون ضد الأعداء (وأعداء تلك الدوّل قلما تتطابق مع أعداء الشعوب العربيّة. على العكس: يمكن ملاحظة أن أعداء دول الخليج كانوا تاريخيّاً الأقرب إلى الوجدان الشعبي. لكن حقبة التعبئة الطائفيّة ـ المذهبيّة فعلت فعلها، وإن لم تعكس المعاداة بالكامل، وهذا ما يلحظه المرء في نتائج استطلاعات الرأي العام العربي، بما فيه الاستطلاع الأكبر، «المؤشّر العربي»، الذي يضع إسرائيل — حسب إجابات المُستطلعين العرب — في مقدّمة أعداء الشعوب العربيّة).
المستوى الثاني من السياسة يجري على صعيد سرّي، وهو زاخر بالتآمر والطعن في الظهر والغدر وتحريض الراعي الأميركي الأم على بعضهم البعض. وتسريب الحوار بين الأمير القطري السابق (الوالد) وبين معمّر القذّافي كان بهدف نقل السياسة بين التحالف السعودي ـ الإماراتي من مستوى التآمر السرّي إلى التآمر العلني. (وشرح خالد الدخيل مؤخراً في جريدة «الحياة» سبب تنحّي الوالد للابن في قطر، وقال إن ذلك كان سبب حصول النظام السعودي على هذا التسجيل بعد الإطاحة بالقذّافي). كما أن وثائق «ويكيليكس» فضحت حقيقة الخطاب الخليجي خلف الجدران.
المستوى الأوّل من السياسة في الخليج هو المستوى الشكلي الزائف. هو المستوى الذي لا يعكس ما تضمره الأنظمة، أو هو الذي يعكس عكس ما تضمر الأنظمة. هو الابتسامة التي تخفي العبوس، أو الطعنة التي تتستّر بلقاء قمّة لمجلس التعاون الخليجي. والتعاون أو الأواصر الخليجيّة لم تكن يوماً إلا مفروضة قسراً بإرادة المُستعمِر (البريطاني ثم الأميركي). الإمارات المتناحرة أصبحت متحدة كي يسهل على المُستعمِر القيادة، والدول الخليجيّة المتصارعة اندمجت في مجلس التعاون الخليجي تحت إصرار الراعي الأميركي الذي ضاق ذرعاً بعد الثورة الإيرانيّة بالأجندات المتنوّعة لتلك الأنظمة. والمستوييْن في السياسة ليسا فريديْن في حالة الخليج: لكن الفرادة تكمن في تناقض مضمون المستوى العلني مع المستوى السرّي.
وعلى المستوى الإعلامي، يتبيّن أيضاً مستوييْن مختلفيْن من السياسة. الإعلام الخليجي كان يعكس تاريخيّاً المستوى الأوّل من السياسة إلا في الملمّات الكبرى عندما تأمر أميركا أو السلالة الحاكمة بشنّ حرب إعلاميّة ضد نظام أو حزب عربي أو غير عربي. عندما فقط، تصبح اللغة المُستعملة مباشرة ويكون الهدف السياسي واضحاً لا لبس فيه (مثل التحضر لحرب الخليج في عام ١٩٩٠ ثم في عام ٢٠٠٣). والإعلام الخليجي، عند انطلاقته، كان حريصاً على التميّز عن إعلام «البعث» والناصريّة ذي الصوت الصادح والصارخ. كان الإعلام الخليجي يسخر من الإعلام البعثي ويرى في نفسه إعلاماً رصيناً وهادئاً. لكن زعم التميّز كان كاذباً لأن حدود التعبير في إعلام الخليج ليست أقلّ ضيقاً من إعلام البعث. وجرائد آل سعود وآل ثاني الصادرة في لندن كان من المفترض أن تتميّز عن إعلام عواصم السلالات تلك عبر التقليل من فسحة التعبير الضيّقة — على ضيقها — أي ضيق المسافة في الإعلام المهاجر. كان الإعلام اللندني يهدف إلى التوجّه إلى الغرب كما أنه يهدف إلى الهرب من ضوابط الهيئات الدينيّة المُتزمّتة. كما أنه كان يريد أن يروّج لليبراليّة زائفة للسلالات لكن عليكَ أن تنسى— ولو للحظة القراءة — أنها سلالات حاكمة بمجرّد أنها في إعلامها تنال من غياب الديموقراطيّة عند الخصم.
لكن الصراع الخليجي المحتدم حالياً أماط اللثام. المستوى السياسي السرّي خرج إلى العلن وجعل من إعلام آل سعود إعلاماً لا يقلّ صراخاً أو صدحاً او ابتذالاً أو سوقيّة عن إعلام البعث، لا بل هو يتفوّق عليه في الفجاجة اللفظيّة والهبوط الأخلاقي — بالتعريف الديني والعلماني والمهني على حدّ سواء. إعلام آل سعود حاول لسنوات أن يبرز بمظهر الديبلوماسي الهادئ. لكن هذا الدور كان جزءاً من النفاق السياسي الذي ساد في أداء أنظمة الخليج. النفاق كما في التستّر على الخلافات العميقة بين الأنظمة وفي التستّر على الخلافات بين دول الخليج والمحيط العربي، كما أنه تستّر على عمق العلاقة مع الحكومة الأميركيّة ومع حليفتها إسرائيل (تنازعت دول الخليج عبر السنوات والعقود حول التقرّب من دولة العدوّ، فكانت قطر يوماً أقرب إليها، إلى أن سبقتها دولة الإمارات والسعوديّة في ما بعد).
لكن الأداء الإعلامي كشف عن تغيّرات كبيرة في الإعلام الخليجي. لم يعد الإعلام الخليجي يحتاج إلى المساهمات اللبنانيّة. أصبح الإعلام الخليجي محليّاً في إنتاجه في أكثره. وكتابات معلّقي الصحف الخليجيّة أسلس وأفعل وغالباً أمتع من كتابات الممتهنين اللبنانيّين في الإعلام الخليجي. على العكس هذه المرّة، كانت المساهمات اللبنانيّة في الكتابات الخليجيّة (في الصف السعودي) هامشيّة في المعركة الدعائية المحتدمة. طبعاً، تجنّد أمثال غسان شربل وسمير عطالله وجهاد الخازن (أي ما يُوصف بـ«كبار الإعلاميّين» في العالم العربي ذي مقاييس النفط والغاز) لشن حرب فوريّة ضد العدوّ القطري المُستجد. لكن لماذا اختار هؤلاء الثلاثة أن يشنّوا هذه الحرب ضد النظام القطري الآن، وبعد ساعات فقط من إعلان الحرب السعودي؟ هل أن الوحي أتاهم هكذا عفواً؟ وقد كان هؤلاء ممن كتبوا في مديح قطر و«الجزيرة» في الماضي (لكن بعد المصالحة الأولى بين النظام السعودي والقطري). وبعد دقائق فقط من اندلاع الأزمة ومن إعلان النظام السعودي والإماراتي عن كشف تصريح خطير للأمير القطري، استعانت محطة «العربيّة» بكمٍّ من الإعلاميّين العرب ومن بينهم مصطفى بكري وغسان شربل للردّ الفوري (غسّان شربل تخصّص مبكراً في سؤال رفيق الحريري عن عدد المنازل التي يملكها وعن عدد الطائرات الخاصّة التي يملكها وعن السنوات التي جمع فيها مليون ثم مئة مليون ثم ميليار، إلى أن تدرّج في صحف الأمراء).
هل تدخل هذه الردود من قبل الثلاثة في خانة الإعلام؟ هل تدرّس هذه في مادة الإعلام في كليّات الصحافة؟ وجهاد الخازن يستنجد دوماً بذكرياته عن الأمراء والملوك كي يشهّد على صدق نوايا حكّام الإمارات والسعوديّة والبحرين (وقطر — فقط عندما تكون تلك الدولة في حالة وئام مع النظام السعودي). لكن بصورة عامّة فإن الإعلام اللبناني كان غائباً عن المعمعة: تحاشى السياسيّون وتحاشى الإعلاميّون والإعلاميّات (الذين واللواتي لا يوفّرن صراعاً وحدثاً في كل أنحاء الكرة الأرضيّة للتعليق عليه) التعليق على الصراع الخليجي. طبعاً، كان الكثير من الإعلاميّين والإعلاميّات في لبنان في موقف حرج إذ أن بعضهم كتب أو عمل في إعلام آل سعود وإعلام آل ثاني في آن.
لهذا، فإن الكثير من الإعلاميّات والإعلاميّين اختاروا تحاشي التعليق والاختباء خلف ذرائع من نوع: المهنة صعبة وقاسية، أو أن المعلومات عن الصراع شحيحة، أو أن الصحافة في بلادنا تواجه تحديّات كبيرة (وبعضهم كان يشكوا من وراء الذرائع من عدم قدرته على الكتابة في إعلام آل ثاني بسبب الأزمة، بالرغم من استمراره في الكتابة في آل سعود). أما المتحذلقون فيهم، فاختاروا الطريق الدعائي الأسهل: التفرّغ لقضايا أهم من نوع السخرية من جبران باسيل والكتابة المسهبة ضد منع فيلم شاركت في بطولته جنديّة إسرائيليّة بالإضافة إلى الشماتة الموسميّة من هزيمة ١٩٦٧ ثأراً لآل سعود. لا همّ طالما أن الكتابة تماشي خط آل سعود، والطاعة الصارمة هي علم من علوم الصحافة اللبنانيّة (التابعة).
وكان واضحاً أن تطوّراً قد طرأ على جهاز الدعاية السعوديّة. لقد بزّ الإعلام السعودي الإعلام القطري في السخرية والفعالية والقوة في الأيّام الأولى من الأزمة. وإعلام النظام القطري كان ضعيفاً للغاية في مواجهة الإعلام السعودي (بالرغم من مساهمات حماسيّة لساطع نور الدين، الذي كان قد أعلن في عام ٢٠١٣ أن تولّي الأمير القطري الحكم خلفاً لأبيه كان ذروة الديموقراطيّة العربيّة وعنواناً للربيع العربي). وضعف الإعلام القطري يعود لأسباب عدة أبرزها حالة الانحدار الذريع الذي بلغته محطة «الجزيرة». وهذا ما شمتَ به عبد الرحمن الراشد (الذي ثبتُ أنه مايسترو الكتّاب والصحافيّين والمذيعين والمذيعات في الإعلام السعودي (واللبناني)، إذ أنه بمجرّد ما يطلع برأي، يطيع الآخرون ويكتبون في نفس الخط على الفور) في مقالاته الأخيرة. علّم الراشد على «الجزيرة» بأن الإعلام السعودي بات متفوّقاً عليها (في الدعاية والتأثير).
و«الجزيرة» كانت أفعل ما بيد النظام القطري لما كان لها من سطوة وشعبيّة. هي كانت في سنواتها الأولى أقلّ المنابر الإعلاميّة ضيقاً — لم تكن حرّة بالتأكيد — في الإعلام العربي، وفتحت شاشتها لمعارضين من كل الدول العربيّة (في البدايات) باستثناء قطر طبعاً، ولم تتعرّض لمسألة توزيع الثروات وقرار الإنتاج وأسعار النفط والغاز في العالم العربي، أو للوجود العسكري الأميركي في شبه الجزيرة. كانت «الجزيرة» تستطيع أن تضايق النظام السعودي عبر استضافة معارضين، خصوصاً سعد الفقيه، الذي كانت إطلالاته بصورة خاصّة تشكّل إزعاجاً لنايف بن العزيز، والذي حثّ الحكومة على التصالح مع النظام القطري من أجل استبعاد عامل «تخريب» المحطة. لو أن «الجزيرة» حافظت على قوّتها وتأثيرها — بالرغم من صعوبات هذا الحفاظ لأسباب كثيرة — لكانت هذه الأزمة مختلفة ولكان الموقف السعودي ـ الإماراتي أضعف بكثير. لكن الإعلام السعودي ـ الإماراتي عوّل على ضعف «الجزيرة» ونجح في هذا التعويل.
كان لـ«الجزيرة» في بداياتها قشور من الشكل المهني الذي أعطاها طابعاً ميّزها عن الإعلام العربي الرسمي الفجّ. وجد فيها المشاهد نوعاً مختلفاً من الأخبار التي تعوّد عليها في محطات الدعاية السياسيّة غير المنمّقة. لكن اندلاع الانتفاضات العربيّة (وتصالح النظام القطري مع النظام السعودي قبل ذلك ببضع سنوات) غيّر من وجهة المحطّة وجعلها بوقاً دعائيّاً لصالح الجناح الإخواني من الثورة المضادة (فيما قادت السعوديّة والإمارات أجنحة مختلفة من الثورة المضادة بأفق مصالح نظاميْهما). الإفراط في التحريض والتبعئة والتجييش وبث الأخبار الكاذبة غير الموثوقة في تغطية سوريا واليمن والبحرين جعل من «الجزيرة» ما كانت قد أتت لتكون بديلاً منه: أي إعلاماً رسميّاً عاديّاً ومملاًّ لا يختلف عن إعلام النظام الأردني أو البعثي. وزاد من ضعف الأداء أن إعلاميّي وإعلاميّات «الجزيرة» اكتشفوا فضائل التغريد والتعليق الفايسبوكي، فزال وهم التمييز بين تقديم الخبر والتعليق عليه (بفجاجة وطائفيّة صارخة غالباً). صحيح أن لهؤلاء الملايين من المتابعين، لكن القاعدة الشعبيّة للمحطة أصبحت إخوانيّة حصريّاً.
وفي الأزمة الحالية اختار النظام القطري أن يخوض غمار الحرب مكبّل اليديْن، فحيّد الملك السعودي (لا بل إن تحرير جريدة «الراية» اعتبره الأمل الوحيد لحلّ الأزمة). والتذاكي القطري هذا في تلافي التعرّض للنظام السعودي زاد من حدّة المعارك السعوديّة ضد النظام القطري. والنظام الإماراتي اقتفى آثار النظام السعودي، لكن النظام السعودي كان جاهزاً. والاعتماد على الـ«انفوغرافيكس» (أو الرسومات المعلوماتيّة وهي من ضرورات الدعاية السياسيّة لدول الخليج هذه الأيّام) كان بارزاً في كل الإعلام المتصارع: شركات إعلانات وعلاقات عامّة (أوروبيّة وأميركيّة) تشارك في الحكم في هذه الدول. واستفاد النظام السعودي من توقيت الأسبقيّة، إذ إن كل ملفاته ودعاويه ومزاعمه ضد النظام القطري كان معدّاً سلفاً. ومراسلات السفير الإماراتي في واشنطن مع «مؤسّسة الدفاع عن الديموقراطيّة» تؤكّد أن هناك شيئاً كان يُعدّ وأن التوقيت كان يحتاج إلى شرارة الانطلاق. والعلاقة بين أجهزة المخابرات وبين أجهزة الرصد والتجسّس والتسريب في السعوديّة والإمارات وبين أجهزة الإعلام كانت ظاهرة.
واتّبع الإعلام السعودي (وقلّده في ذلك الإعلام الإماراتي) نمطاً جديداً لم يتّبعه من قبل. لم يلتزم الإعلام بمحرّمات وخرق ما يسمّيه العرب المحاظفون بـ«الأعراض»، كما أن التهكّم من أشخاص النظام والتحريض ضد نظام الحكم والتفريق بين أجنحة فيه، والمناشدة من أجل قلبه نسف خطوطاً حمراً كانت هذه الأنظمة المحافظة تتحاشاه بصرامة حفاظاً على تقاليد العروش. لكننا نحن أمام سياسة سعوديّة جديدة بإمرة محمد بن سلمان (والذي بدوره يبدو بإمرة محمد بن زايد) حيث الإقدام والمغامرة والتهوّر والتهوّك هي سمات المرحلة. لم يعد التحفّظ مرغوباً، والمواقف المائعة تعرّض الإعلامي للطرد الفوري.
والقارئ العربي كاد أن يصاب بالدوار من الاتهامات والاتهامات المضادة، والتي كانت تُكال بمضامين مختلفة وبلغات مختلفة. في الإعلام الغربي، التزم النظام السعودي باتهام قطر بمساندة الإرهاب وكان عادل الجبير صريحاً في تضمينه «حماس» من جملة المنظمّات الإرهابيّة التي يحاربها النظام، في سياق «داعش» و«القاعدة» نفسه. لكن الإعلام السعودي العربي كان يتهم قطر بمحاباة الصهيونيّة والتطبيع مع العدوّ الإسرائيلي. أيّ أن لكلّ جمهور مقالاً. أما في الغرب، فكانت الأنظمة المتصارعة تدلّل على صدق وعمق محاربتها للإرهاب وعلى انتهاجها للاعتدال في سياستها.
والذي أوقع الأنظمة في دوّامة هو هذا الاحتكام للحاكم الأميركي. فكان إعلام النظام القطري يأمل مبكرّاً في أن تحلّ أميركا الأزمة وطلب مساعدة «مكتب التحقيقات الفدرالي» في معرفة هويّة خارقي حساب وكالة أنباء القطريّة (لأن أميركا محايدة ولا غرضَ لها). لكن التعويل على الأميركي يمكن أن يشدّ أوتار الأزمة: فكانت تغريدة واحدة من ترامب كافية لإنعاش الفريق السعودي وإشعاره بأنه على حق (لأن أميركا هي الحق)، فيما كان الإعلام القطري يشكو من سوء فهم أميركي (ما أدّى إلى إرسال وزير الخارجية القطري السابق كي يشرح وجهة النظر القطريّة في واشنطن). لكن تصريحات وزارة الخارجيّة الأميركيّة لاحقاً (قبل أيّام) أتت لتدعم الحكومة القطريّة (بعد توقيع صفحة سلاح مستعجلة وبريئة)، ما أوقع الإعلام السعودي في ارتباك وأوقع الإعلام القطري في زهو واضح، على الصفحة أولى.
والترابط بين أنظمة الخليج ومراكز الأبحاث في واشنطن أدّى إلى مطابقة في المواقف: كان الإعلام السعودي والإماراتي يستشهد بمواقف لمحلّلين في مراكز مموّلة (وموالية) للسعوديّة والبحرين والإمارات فيما كان الإعلام القطري يستشهد بمحلّلين في مركز «بروكنغز». وهذه المراكز دخلت في المعركة قبل أن تشتعل رسميّاً لأن بعضها كان متشاركاً مع السفارة الإماراتيّة والسعوديّة في إعلان الطلاق مع قطر. وعجّت الصحافة الأميركيّة بسرعة شديدة بتعليقات ومقالات لأقطاب اللوبي السعودي والإماراتي، من العرب ومن الأميركيّين.
لكن حدّة الأزمة وابتذال الإعلام السعودي في دعايته جعله مسليّاً ربما للمرّة الأولى في تاريخه. كانت جريدة «عكاظ» تذكّر بجريدة «المحرّر» (البيروتيّة) في عزّ اعتناقها لمواقف حزب البعث الحاكم في العراق في السبعينيات. عناوين كبيرة ومتعدّدة تملأ الصفحة الواحدة، ورسّامو الكاريكاتور السعوديّة (والكثير منهم موهوبون، مثل رسّام جريدة «مكّة»، عبدالله جابر) سارعوا إلى المشاركة في المجهود الحربي (وبصفاقة وابتذال تعهده في هذا الإعلام). ولم تكن أنصاف الحلول مقبولة: الشيطنة التامّة للطرف الآخر هو أقل ما يُسمح به، والتخوين والاتهام بالإرهاب من أسلحة المواجهة.
لكن سابقة هذا الإعلام سترتدّ لاحقاً على مُشنّيها. هذه الشيطنة فتحت مجالاً في حروب بين الأنظمة الخليجيّة لا بدّ أن تأتي. والشك والريبة سيزدادان بين الحلفاء لعلمهم أن بواطن الأمور لا تظهر في المناسبات العامّة وحفلات العناق الرسمي. وسلمان بن عبد العزيز رقص العرضة أمام الأمير القطري في آخر زيارة له للدوحة. والصراع الإعلامي يفضح ضيق الهويّات الخليجيّة: الهويّة العربيّة لم تكن يوماً سياسة رسميّة. وكما كانت الهويّة الإسلاميّة سلاحاً رفعه آل سعود ضد قوميّة عبد الناصر العربيّة، فإن القوميّة العربيّة يرفعها اليوم آل سعود فقط من أجل تقويض سمعة إيران ونفوذها في المنطقة العربيّة. لكن الهويّة الحقيقيّة التي عملت السلالات على زرعها وترسيخها هي هويّات قُطريّة ضيّقة، سرعان ما تظهر إلى السطح في الصراعات. والذين سخروا من القوميّة العربيّة يزهون بهويّة في حدود رسمها المستعمِر بقلمه. وانسياق الإعلام في حملات الهويّة القُطريّة ينبع من عقيدة تلك الأنظمة نفسها. والشيطنة والشيطنة المضادة يمكن أن تنقلب إلى صراع بين القبائل وأفخاذها إذا ما تفتّتت هذه الدول أو انقسمت كياناتها، كما توقّع تقرير لمؤسّسة «راند» (وهي أيضاً تتلقّى تمويلاً خليجيّاً) قبل سنوات في تقييم للسعوديّة.
والعصبيّة الوحشيّة الشوفينيّة سوّغت لحالة المنع والحظر التي فرضها التحالف السعودي ضد قطر. وعندما يفتي أميركي بوحشيّة وقساوة الإجراءات السعوديّة تعلم حقيقتها. فقد كتب غاري سيك (الذي كان مستشار الشؤون الإيرانيّة والخليجيّة في إدارات كارتر وفورد وريغان) في موقع متخصّص بشؤون السياسة الخارجيّة بعنوان «حصار قطر»، أن منع المواد الغذائيّة والطبيّة عن قطر وعن اليمن من قبل التحالف السعودي هو سابقة لم تسجّلها حتى أميركا في عقوباتها الصارمة ضد إيران. لكن هذه الدول فتحت أبواب الصراع ضد بعضها البعض عندما تسابقت بعد اندلاع الانتفاضات العربيّة من أجل شنّ حرب مضادة ومن أجل تنصيب طغاة (أو حكّام منتخبين لكن موالين). وهي تسابقت في سوريا من أجل قلب النظام بسرعة قياسيّة وتنصيب حركات جهاديّة مواليّة (متفرّعات عن «القاعدة» في أكثرها — انتظر عبد الرحمن الراشد حتى صيف ٢٠١٧ حتى يعترف بأن «الجيش السوري الحرّ» لم يعد موجوداً بعد ضخّ كمّ هائل من الدعاية وتصدير أطنان من الدعاية والسلاح إلى سوريا بحجّة دعم الفصائل المعتدلة المتمثّلة بـ«الجيش السوري الحر»).
والعلاقة مع إيران باتت من المحرّمات الدينيّة فيما ينوّه زعماء إسرائيل بصورة شبه يوميّة بالعلاقات السريّة بين دولة الاحتلال و«الدول العربيّة المعتدلة». لن تسمح أميركا باحتدام هذا الصراع. وتهوّر محمد بن زايد ورفيقه محمد بن سلمان له حدود أميركيّة ترسمها المصالح الأميركيّة الحريصة على استقرار هذه الأنظمة الخانعة. والذين أغدقوا المدائح من قبل، يغدقون الهجاء اليوم، والعكس. والإعلام المسلّي هذه الأيّام هو رهن إشارة الأمير. الرأي الحرّ ممنوع قانوناً، وعقوبة الـ١٥ سنة سجن تلحق من يُبدي تعاطفاً في دولة الإمارات البوليسيّة (هل تشعر وزيرة السعادة فيها بالحزن هذه الأيّام؟)، والعقوبة تختلف بين السعوديّة والبحرين. واستقالة علي الظفيري من «الجزيرة» — مناصرة لله ولولي الأمر حسبما قال، أي أن الله هو أيضاً غاضب ضد قطر بحكم غضب آل سعود — دليل على استحالة أخذ مواقف مغايرة لمواقف النظام من قبل مواطني النظام. والخطاب الصحافي أسهب في الاستعانة بمصطلح «التطاول» (ووجدت بعض الصحف الغربيّة صعوبة في ترجمته) وهو قانوناً في الأردن معروف بقانون «إطالة اللسان». وهذه القوانين تعبير عن طبيعة الاعتدال العربي، الذي تشيد به دول الغرب بمناسبة ومن دون مناسبة. لكن هناك جانب إيجابي للأزمة: فقد اتسع المحيط العربي. باتت جزر المالديف جزءاً لا يتجزّأ من العالم العربي، وفي هذا إثراء للعروبة (السعوديّة).
خليك معنا