الصباح اليمني_مساحة حرة|
ليس غريبا أننا نعيش في زمن فقدت فيه الأشياء معانيها وضلت العقول فيه عن مسلمات الحقائق ومنطق الأشياء، ولهذا السبب صار الحق باطلا والباطل حقا والتبست الأمور واختلطت الأوراق، لا شك ان الجيل الجديد الذي وجد نفسه وسط تحديات هذا العصر يعاني من اضطراب شديد في فهم وتمييز الصواب من الخطأ والحق من الباطل والفضيلة من الرذيلة.
لا شك ان هذا الجيل يعيش مأزقا وجوديا وفكريا لا يستهان به وبمعية ذلك نعيش نحن مع هذا الجيل مأزق الجدلية بين الحقيقة والخيال ومعركة كبرى اسمها إعادة الحقائق إلى مواضعها الاولى .
على مدى عقود سابقة مريرة من حياة المواطن العربي والفلسطيني تحديدا كانت ولا زالت اسرائيل الكيان والشكل والدولة التي تمثل العدو المحوري في الحياة لأن أفعالها وعقيدتها تنطق بذلك طيلة فترة عمرها ، ربما عايش بعض ممن يقرأون هذه السطور المعنى الحقيقي للعدو الاسرائيلي والمعنى الحقيقي لكلمة عداوة وربما تعايش اخرون مع هذا المفهوم من خلال سياق غير مباشر لتأثيرات الآحداث في سيرة حياتهم ومن خلال وسائل الاعلام والحالة الفكرية الاجتماعية فقط ، ولمن لا يستطيع أن يتخيل ما معنى وما ترجمة مفهوم أن تكون اسرائيل عدوا فيمكنك أن تعقد مقابلة مع احد مواطني غزة أو بيروت أو أن تتقمص دور القريب لأحد الشهداء أو المعتقلين أو الذين يعيشون في أحياء القدس والضفة ويتعرضون لجنود العدو ليلا ونهارا ويذوقون مرارة العيش على يد شياطين المستوطنين ،يمكنك أن تقرأ التاريخ جيدا أو يكفي أن تتابع مسلسل الجرائم الاسرائيلية اليومية لكي تعرف ما معنى ذلك ولو بالحد الأدنى.
هذه الصورة الأصلية لمعنى الكيان الصهيوني بما تنطوي عليه من قتل واحتلال واغتصاب وسرقة وجريمة بدأت تتعرض للعب والعبث العقلي منذ سنوات ليست قليلة ضمن خطة ترويج لمعنى جديد لدولة الكيان ليصار إلى تحويلها إلى مشتقات مخادعة حداثية ومحببة وتعايشية سلمية كما يدعى ، في المرحلة الحالية التي نعايشها اليوم ونتجرع فيها الجرعات الموسمية من كأس السموم الاسرائيلية يطغى على المشهد تشابك كبير من الصور التي تحير العقول وتقلب القلوب وأخطرها جميعا على الاطلاق ما يجري بصورة خفية وعلنية لما يمكن أن نسميه أكبر عملية غسيل للعقل العربي وإعادة برمجته أو إعادة توجيه مفاهيمه ونظرته لكامل المنظومة التي يتعايش معها والهدف من كل ذلك هو إزالة كلمة عدو عن الكيان الصهيوني واستبدالها بكلمات أكثر توددا ولباقة ونعومة من مثل الحليف والداعم والدولة المتحضرة وبنفس الوقت تنقل كلمة العداوة ليشغلها أي شيء آخر ممن تكرههم اسرائيل ، وفي سبيل تنفيذ هذه العملية الجديدة واحداث التغييرات المطلوبة يجري تحريف كل ركن واعادة تسمية الثوابت من جديد ، ويستغل في سبيل ذلك كل شيء متاح بدءا من الصورة إلى الكلمة إلى التدين إلى المال وانتهاءا برصيد القهر الذي حقنه الحكام العرب في ذاكرة المواطن العربي البائس طيلة العقود السابقة .
غسيل الدماغ هذا والذي يشتغل بقوة يهدف إلى تحويل العدو الأساسي إلى الحليف الأساسي واللعب على الوعي العربي لاستبدال مفهوم الحليف الحقيقي والصديق الحقيقي وتحويله إلى مسميات عدائية كثيرة كلها تصب في صالح القضية الصهيونية على حساب القضية العربية ، شعار غسيل الدماغ هذا هو أن دولة الكيان هي الحليف الجديد الذي يحرص على التعايش بسلام ويساند الأنظمة العربية بينما انتقلت العداوة العربية لتجد لها محلا جديدا حسب التعريف الاسرائيلي الجديد ضمن عملية غسيل الدماغ ، فالعدو هو من يعادي الكيان والصديق هو من يؤيده .
من يتابع المجريات في المنطقة العربية منذ سنتين أو بالتحديد منذ تدشين ألعوبة كورونا يجد الان اننا نمر بمرحلة دقيقة وحرجة للغاية ولا يوجد شيء مجاني ولا عبثي ، هنالك حرب خفية على الشعوب العربية وليس الأنظمة العربية ، هذه الحرب أهدافها الأولية هي الشخصية العربية الاسلامية كي تتقبل المعاني الجديدة : الثوابت الدينية – اللغة العربية – عادات المجتمعات – قلب الحقائق رأسا على عقب وقلب مفهوم العدو في شكل وقالب جديد – ما يجري الان في دول العرب أبعد بكثير من مجرد تصفية القضية الفلسطينية لأنهم في حساباتهم قد قضوا نحبها وانتهت ولم تتبق قضية فلسطينية لأن المتمكن له حساباته الخاصة ويخطط لقضايا جديدة كليا .
ليس تعريف العدو هو من يتم التحريف به بل يتم أيضا تزييف معنى مواجهة ومقاومة العدو ويتخذ الأمر مسارا تهريجيا وأنماطا دونكيشوتية على يد أنظمة الحكم العربي ، ليس هذا فحسب بل يتم الان تزييف فهم معاني الحلال والحرام في عمق العقلية العربية وإعادة تعريف الدين الاسلامي على أنه الدين الابراهيمي الذي يقر بكل المحرمات تحت ستار المسامحات وينظر بأن ركوع الشعوب لقاتليها هو درء للفتنة ، والصلح مع قتلة الانبياء هو صلح الحديبية الجديد ، والصلح خير والقتال فتنة ! نحن أمام أكبر عملية غسيل دماغ جماعية في أطول فترة من السنوات سوف تسجل كأكبر عملية تدليس وتزييف عبر القرون .
تخيلوا حجم الضرر الذي أصاب الذاكرة العربية المريضة وكيف نسيت عدو الامس وثملت بضحكة اليوم ، تخيلوا كيف نجحت أوسلو في تحويل اسرائيل من العدو اللدود والمجرم القاتل والسارق المنبوذ إلى مانح المال والكرامة والعزة فلا عزة إلا من أعزته اسرائيل ولا ذلة إلا لمن حرمته اسرائيل ، تخيلوا معي كيف نساق كالماشية لنقسم أنفسنا إلى شيعي وسني وشرقي وغربي ونحن أخوة الدين واللغة والجغرافيا وحتى الأمــس القريب ، تخيلوا كيف تتحول اسرائيل عدوة الشجر والحجر والبشر إلى أيقونة السلام والمحبة وداعم التحرر والديموقراطية والمنادي بتحرير الشعوب العربية ، تخيلوا واذهبوا بعيدا في حقول خيالكم إلى أشد الانظمة العربية تآمرا وتخلفا وانغلاقا كيف تقود مسيرة التغيير الجديدة لتضع الطوق الجديد حول رقابنا إكرامــا وخدمة وطاعة لاسرائيل الشر المطلق ، فكروا كيف يجتمع فيه أعداء الأمس مع أعداء اليوم والغد والمستقبل ليقرروا لنا من هو العدو ومن هو الصديق ، حاولوا أن تفكوا أحجية ما فعلوه بسوريا وليبيا ولبنان واليمن والعراق وغيرها لتفهموا معنى العدو الذي يربض في فلسطين.
يوم الخميس الماضي أقر البرلمان العراقي بالتصويت للأغلبية بقانون تجريم التطبيع مع دولة الكيان في قرار يبدو ثانويا أو غريبا ، صحيح جدا أن الكيان الصهيوني هو عدو مبين لكل عربي ولكل مسلم وهذه الحقيقة لا تحتاج قانونا ولا تشريعا لتوضيحها والتأكيد عليها مثل أشياء وثوابت كثيرة ، ولكن في زمن التيه والانحراف العربي وشغول الخونة قيادة مركب التحريف للعقول والنفوس يصبح لزاما العودة إلى الأصول ويصبح لزاما وضع النقاط على الحروف التي بهتت وإعادة كتابة معانيها من جديد ، لقد حقق الشعب العراقي من خلال البرلمان الممزق أول نقطة مسجلة في صالحه وصالح القومية العربي والهوية العربية الإسلامية من خلال تشخيص العدو والعودة إلى الثوابت التي يبدو أن الكل قد نسيها أو تناساها ، اسرائيل ومن يتولاها هم أعداء هذه الأمة وهذه الشعوب ، نقطة انتهى الكلام .
على الرغم من الحساء السياسي الداخلي الذي لا يحسد عليه العراق والفوضى السياسية الضخمة التي لا تختلف كثيرا عن الحالة اللبنانية لكن التصويت بتشخيص العدو وتعريفه هو قرار جريء مهما كانت دوافعه ومجرياته وغاياته وصلته بما يحضر على الحواف التكتونية السورية .
الشيء الغريب في عالم اليوم أن الأنظمة العربية والمطبعة خاصة تصر على إعادة تعريف الكيان الصهيوني على أنه الصديق والحليف الأهم والأكثر تسامحا وتحضرا وديموقراطية وانفتاحا في الوقت نفسه الذي تؤكد لنا فيه دولة الكيان وتصر على اثبات هذه الحقيقة بانها هي العدو الأزلي لكل العرب من خلال نهجها واعمالها الإجرامية واستمرار احتلال الأرض العربية واغتيال واعتقال المواطن العربي والتآمر على كل الآقطار العربية دون رحمة ولا هوادة .
في القرآن الحكيم يقول الله تعالى ( ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان ۖ إنه لكم عدو مبين) ومبين هنا تعني شيئا واحدا لا لبس فيه لمن فيه ذرة من عقل أو وعي ، إنها تعني بأن هذا المخلوق هو العدو المطلق مهما تبسم لك او منحك من متاع الدنيا أو مكاسبها أو أقنعك بأنه يقف إلى صفك ويعمل لأجلك فهو في النهاية سيغتالك وينال منك ويقضي عليك ويتسبب في هلاكك وإسقاط الأذى عليك ، اسرائيل في سلوكها وعقيدتها وضميرها التاريخي لا تختلف في شيء عن هذا المفهوم ، هي العدو المبين الذي تخفى طيلة سنواتنا المريرة خلف طبقات وأقنعة من الزيف وادعاء الحداثة والتمدن ، إنها نفس عقلية التدين اليهودي المتشدد المتزمت السري التي قتلت الأنبياء واغتالت الحكماء وشربت دماء الأطفال وهي نفسها التي تمارس ذلك اليوم بأداوت جديدة من اف 16 وشبكات الانترنت ووسائل الاعلام وتراود العقل العالمي والعربي عن وعيه وتمارس كل أفعال الشيطان المبين .
القانون الذي سنه البرلمان العراقي يشكل بارقة امل بمعية كل حركات المناهضة للتطبيع التي تنطلق من هنا وهناك وستكون حجر الدومينو الأول الذي سيسقط مرحلة غسيل الدماغ ويعيد الرشد للشعوب المضللة ، الوعي العربي لن يموت ، حقوق الشعب الفلسطيني لن يتم ابتلاعها تحت خديعة السلام الكاذب ، حقوق الشعوب العربية لن تضيع مهما اشتدت ظلمات المؤامرات .
أسرح في خيالي احيانا فأتخيل الدول العربية وقد أعادت تحديد العدو بشكل صحيح وحددت اتجاه البوصلة نحو الاتجاه الصحيح وأطلقت نفير الاستدعاء إلى فلسطين ، بمقدروي أن أتخيل مئات الملايين من السيول البشرية سيأتون من كل فج عميق من اليمن ومن سوريا ومن الاردن ومن الخليج ومن الباكستان وماليزيا واندونسيا والبرازيل ومن اصقاع الأرض ليغطوا كل حبة من تراب فلسطين بأجسادهم فقط دون اي سلاح وعندها فلننظر ماذا ستفعل اسرائيل!! …….تحية كبيرة لشعب العراق العظيم !
كاتب فلسطيني
-
نقلا عن صحيفة رأي اليوم الإلكترونية
خليك معنا