سؤال فيه قدر من البساطة حد السذاجة إذا ما ارتبط بوضعنا الراهن ومشاهداتنا اليومية وحالة حكامنا وأحزابنا ونخبنا الفاشلة والمخذولة. واقعنا الذي يفقأ العين، ويخز الضمائر، ويوقظ الموتى أجلى وأسطع من أن يسأل عنه. نحن أمام حكم غلبة وقوة، حكام آتون من مضارب داحس والغبراء، يمتلكون القوة والمال، ولا يتمتعون بنزر يسير من المعارف والقيم والضمير.
وصلوا إلى السلطة بسلاحهم، وليس برغبة أو رضا شعوبهم، وهو ما قاله ذات يوم معاوية: «أما بعد فإني والله ما وليتها بمحبة منكم ولا مسرة بولايتي، ولكني جالدتكم بسيفي هذا مجالدة». وبعد أربعة عشر قرناً، يشير الرئيس السابق، علي عبد الله صالح، في لقاء شهير مع عبد الباري عطوان قبل بضعة أعوام، إلى أنه أخذ الحكم بمسدسه، وهو صادق تماماً.
يعجز حتى أكثرنا ولاءً وتعاطفاً مع الحكام العرب عن أن يدل على واحد منهم وصل إلى الحكم برضا الناس واختيارهم، أو بالاحتكام إلى صناديق الإقتراع.
هناك أسباب كاثرة للحروب، وهي متنوعة ومتعددة في الزمان والمكان، ولكنها كلها تدور من حول المال والسلطان؛ فسفك الدم في الإسلام بل وفي كل الملل والنحل له ارتباط وثيق بالاقتتال على السلطة والمال، وتوسيع دائرة الحكم والنفوذ.
حكام مغتصبون للحكم يعتقد البعض منهم أن مصدر ولايته حق إلهي، وبعضهم وارثون لها أباً عن جد؛ فهي حق تملك بوضع اليد، أو بالمجالدة كحال معاوية، والبعض يرى أنها امتداد أو آتية من شرعية ثورية أو سلطة أمر واقع، وهي أيضاً إرث من صور المجالدة. وحتى الذين وصلوا إليها عبر انتخاب أو تفويض شعبي قد نسوا بمجرد وصولهم إلى الحكم، وأصبح التفويض أو العقد الإجتماعي عقداً كاثوليكياً لا يجوز أن يُنقض حتى بالموت.
حكام اليمن كلهم والأحزاب المدججة بالمليشيات والمؤزرة بالحرب لا تعنيهم الحالة التي وصل إليها الشعب. القتلى بعشرات الآلاف، والمشردون من منازلهم بالملايين، والجرحى والمعاقين مئات الآلاف. المجاعة تفتك بالآلاف، ويتجاوز الفقر حد المجاعة شاملاً أكثر من ثلثي السكان، والبلد كلها شمالاً وجنوباً معرضة لمخاطر الأوبئة الفتاكة التي تقتل المئات والآلاف، وتتوقع منظمات دولية مختصة انتشار الكوليرا لتحصد مئات الآلاف، وهي الآن منتشرة في طول اليمن وعرضها.
يُنسب إلى عنترة بن شداد أنه، عندما سئل عن بدء الحرب، قال: الشكوى. فالحرب التي أولها كلام – كما يرى نصر بن سيار -، يعبر عنها شاعر الوطنية اليمنية، محمد محمود الزبيري، – كتسمية الجاوي – بقوله: والحق يبدأ في آهات مكتئب… وينتهي بزئير ملؤه نقم. يشير عالم الإجتماع الشهير والمؤرخ العراقي، علي الوردي، إلى أن من خصائص الوطن العربي الكبير أنه بقعة من الكرة الأرضية واسعة جداً، فهو يمتد من المحيط الأطلسي إلى الخليج العربي، حيث تستغرق الشمس في اجتيازه أكثر من ثلاث ساعات.
وقد مر على هذا الوطن دهر طويل كانت المواصلات بين أطرافه المتباعدة عسيرة جداً تُستخدم فيها الإبل والدواب أو السفن الشراعية البطيئة، وتستغرق أياماً عديدة أو شهوراً. وهذا التباعد بين أقطار الوطن العربي جعل كل قطر منها يعاني ظروفاً خاصة به، تختلف عن ظروف الأقطار الأخرى، فلم يحدث مثلاً أن تمكن فاتح من فتح جميع الأقطار ومن إبقائها تحت سيطرته المباشرة؛ ولهذا وجدنا كل قطر عربي له تاريخه الخاص من النواحي السياسية والاقتصادية والدينية وما أشبه.
هذا الطول الجغرافي الممتد على قارتين: آسيا وأفريقيا، وفيه – كما أشار العالم الوردي – امتداد صحراوي، هو أكبر امتداد على وجه الأرض، يبدأ من جبال إيران شرقاً، وينتهي عند سواحل المحيط الأطلسي غرباً، ولا يفصل بين جناحيه سوى بحر يشبه الشق الطويل وهو البحر الأحمر. يستنتج الباحث أن المنطقة العربية تتميز عن جميع مناطق العالم بكونها قد جمعت منابع البداوة والحضارة بشكل خاص وعلى نطاق واسع جداً؛ ولهذا صح القول بأن المجتمع العربي هو أكثر المجتمعات في العالم معاناة للصراع بين البداوة والحضارة، ومن أكثرها تأثراً بهما.
الصراع الكالح الممتد حتى اليوم عائد في جانب مهم ومرتبط أيضاً بوجود بنية قبلية متينة وقوية أشار إليها عالم الإجتماع، عبد الرحمن بن خلدون، وهي: أن الأوطان الكثيرة القبائل والعصائب قلّ أن تستحكم فيها دولة. وللأمر علاقة بالصراع بين التحضر والتمدن والبداوة، بين الغلبة والسياسة، فمبقدار ما أن البداوة صراع ضد التمدن والتحضر، سلاحه الأوحد الغلبة، فهي نفي للسياسة. وتتشابه اليمن والعراق بل وكل الجزيرة والخليج في هذه الخاصية، فالقبيلة هي جذر المجتمع في هذه الجزيرة. يستثني الوردي مصر، رغم وجود الصعيد المحافظ على الجذور القبلية. وما يفسر الدورات المحمومة للعنف والاحتراب، وارتهان الدولة للقبيلة، النفي الحقيقي لها؛ فهي – أي الدولة – في هذه المناطق مشيخة.
يرى الدكتور محمد عبد القادر بافقيه، وهو مؤرخ مهم، أن الصراع بين الشمال والجنوب في الجزيرة العربية، أو العدنانية والقحطانية كنسبة وليست كسلالة – حسب قراءته المائزة – قديم، ويعود إلى الحملة الرومانية على اليمن قبيل ميلاد السيد المسيح، والتي شارك فيها بعض اليهود. سجلت النقوش أسماء عشائر متفرقة اختفت ولم تبلغ أخبارها النساب. فمنذ أواخر القرن العاشر للميلاد، غالباً تحدثنا النقوش السبئية عن هجمات وتحرشات العشائر العربية أو الأعرابية، وأن مأرب (العاصمة السبئية) كانت حاجزاً على أطراف الرمال بين الحضارة والصحراء. وهو ما يزكي ما ذهب إليه الباحث الوردي. والوردي – يرحمه الله – كثيراً ما دعا إلى علم اجتماع عربي يدرس خصائص وسمات هذا المجتمع المختلف إلى هذا الحد أو ذاك عن مجتمعات أخرى.
اتكأ الإستعمار بعد سقوط دولة سلطان آل عثمان، على تشكيل الأنظمة القطرية التي رسم حدودها بالقلم الأحمر حيناً، وبالدم القاني في أحايين كثيرة، فتحول الشيوخ إلى ملوك وسلاطين وزعماء. الثورة النفطية الهائلة لم تستطع تغييب هذا الواقع كلياً، فالصراعات ذات الصلة بالتبدي والتحضر هي جزء أساس من صراعات العراق وسوريا وليبيا واليمن.
العولمة ذات الرؤوس النووية تغذي هذه الصراعات وتؤججها، لتستنزف الثروات الهائلة سواء عبر صفقات التسلح أو الإيداع والاستثمار والاتجار. البداوة – كما يرى الوردي في كتابه (دراسة في طبيعة المجتمع العراقي) – أكثر أمم العالم اندفاعاً في سبيل التنازع والتباغض والقتال. إنه أشد في ذلك من جميع الأقوام البدائية والمتحضرة. فالقتال – كما يرى فيليب حتي – يقلل الأفواه الآكلة في بيئة جائعة (الحل المالتوسي)؛ فسكان هذه البيئة على حافة مجاعة دائمة، ولذا صارت – والتعبير له – نزعة القتال عندهم كأنها حالة ذهنية مزمنة. والحالة الذهنية المتوارثة تستمر حتى بعد تغير الأوضاع، وتبدل الحال من الفقر المدقع إلى الثراء الفاحش أو ما يسميه الأستاذ النعمان «الجوع الأبدي».
عدد أبو الفرج الأصفهاني، في كتاب له خاص بأيام العرب، عدد المعارك الطاحنة بألف وسبعمائة يوم. وهذه الأيام كداحس والغبراء والبسوس قد تستمر لأربعين عاماً أو أكثر. قراءة التاريخ اليمني راعبة في هذا السياق. فأيام الحروب سواء في العصور القديمة أو العصور الوسطى أو التاريخ الحديث والمعاصر كلها أيام حروب، والسلم هو الإستثناء، ويكون بمثابة هدنة لجولات آتية من الثأر والانتقام. الشاعر البردوني المبصر أكثر منا يتفجع بعد المصالحة الوطنية عام 1970:
أهلكتنا الحروب في غير شيء… وبلا غاية دهانا السلامُ
الشعراء اليمنيون أكثر إدراكاً للحالة التراجيدية وأصحاب قراءة عميقة للإنسان اليمني المسكون بالحرب. ولمعنى الحرب كموسم حصاد يؤرخ الشاعر المجدد، محمد أنعم غالب، للحرب العالمية وابتهاج الشباب اليمني العاطل والمغترب بها:
الحرب قامت منذ عام
والشباب يشترون المتعة الأخيرة
تجارة الرصيف لا توفر الرغيف
أنا المحارب الشجاع
أجيد إطلاق الرصاص
رصاصتي لا تخطأ الهدف
الحرب لي عمل
البيئة القبلية، البداوة وقيمها، منبع أساس من منابع الحرب، أما وقد غرقت في بحار النفط والغاز، ونسجت علاقات مع الإستعمار الصانع الأكبر للإرهاب والعنف، فالحرب تصبح لعبة أطفال وتسلية وغرام.