في جانب جوهري منه يبدو الصراع السعودي القطري صراعاً بين إرث الإدارة الأمريكية السابقة والإدارة الجديدة. وقبل عامين، مثلاً، كان واضحاً أن توقيع الإتفاقية العسكرية بين قطر وإيران، يعني وفاة مجلس التعاون الخليجي في المقام الأول.
لكن ماذا لو تكرر سيناريو صدام مع الكويت بسيناريو السعودية مع قطر؟ خصوصاً أن السعودية في أقصى مراحل الاستفزاز، بسبب جوهري من تلك الإتفاقية المربكة لحساباتها وذات التداعيات المريبة على حاضر ومستقبل الخليج برمته. حينها بالتأكيد كان القادم معقداً وضبابياً تماماً، كما كان «التحالف» بقيادة السعودية في اليمن في بداياته وارتباكاته آنذاك. لكن في السياسة الحديثة: من طرح فكرة الوحش يجب أن يتجهز لها أولاً، أو بمعنى آخر نقول: قطر ورطت «الإخوان»، في الحقيقة والواقع، والآن «الإخوان» قد ورطوا قطر.
على أن السعودية المكثفة كانت منذ سنوات هي قطر، أو كأن قطر الضخمة تريد أخذ دور السعودية! هذا هو الوضع التنافسي منذ مشروع الحزب الديمقراطي الأمريكي الذي بدأ عام 1995 أيام بيل كلنتون ونام مع بوش ومع أوباما، وها هو ينتهي مع ترامب القادم من خارج المؤسستين الحزبيتين الديمقراطية والجمهورية في أمريكا.
لكن السعودية وقطر دائرتان ماليتان تسعيان لتقديم أفضل خيارات وتسهيلات النفوذ والهيمنة، في إطار تجيير نضالات وآمال الشعوب لصالح نزواتهما في دول المنطقة، عبر السيطرة والصرف على اللاعبين، فضلاً عن مقاولات الحروب بالوكالة بأسرع ما يمكن إذا تطلب الأمر، من أجل صناعة مستقبل استراتيجيات تلك الدول وفق الفلك الأمريكي بالضرورة. بالمقابل، ظلت أمريكا تتعامل مع السعودية كأنها اليد اليمين، فيما تتعامل مع قطر كأنها اليد اليسار. غير أن أمريكا نفسها التي كانت تضغط على قطر بالسعودية، هي أمريكا التي كانت تضغط على السعودية بقطر بالمقابل، وذلك بما يعزز إرادة مصالحها وما يطرأ على هذه الإرادة من تحولات وتجددات وتكتيكات وحساسيات موازين قوى.
وهكذا: ما بين تطلعات وحماقات وأجندات أكبر مصدر للنفط الخام في العالم، وأكبر مصدر للغاز المسال في العالم، يكون السؤال التالي هو السؤال الموضوعي الوحيد: ما الذي كانت وما زالت تريده أمريكا بالضبط؟! هل تريد من الإثنين التنافس لكسب ودها؟ أم أن انقسام الشر سيولد خيراً؟
في الحقيقة، مضحك قول البعض أن قطر يتم استهدافها اليوم بسبب موقفها المنحاز للربيع العربي، مع أنها قطر التي حكمت على الشاعر الشعبي محمد بن الذيب بالمؤبد بسبب قصيدة تخففت إلى 15 عاماً. ونستحضر الآن مقولة الصديق الشاعر الفلسطيني ناصر رباح: «قطر زائدتنا الدودية… جغرافياً وتاريخياً وسياسياً». لكن الإصلاحيين في اليمن أكثر من يتوتر كلما توترت العلاقة بين قطر والسعودية. وإذا استمر التصعيد بين الدولتين فمن المتوقع طبعاً انتقال التوتر بين إصلاحيي جناح قطر وجناح السعودية، وعلى المكشوف، ولربما نشهد انشقاقات عاصفة أيضاً.
ولقد قالت لي باحثة يمنية أعتز بها: «ليست المشكله وكأنها في أقصى القطب المتجمد، وإنما ضمن التحالف الذي أعلن حربه لأجل استعادة الدولة في اليمن. هذا التحالف بدأت تظهر بداخله أجنداته الخاصة على مستوى استقرار اليمن ووحدتها. قل لي الآن هل نظل نفترض أن الطوفان بعيد عشان احنا نتمنى هذا. اليمن غير مؤثرة، ولكنها تتأثر حتماً بهذه الصراعات، إلا إذا كنت تعتقد أن الإخوان المسلمين في اليمن ليسوا مكوناً يمنياً. وأعتقد أن الفرصة سانحة للسياسة الذكية بالضغط تجاه حل حقيقي لاستعادة الدولة وتجريد من يدعون أنهم يعيدونها من زيفهم».
قلت لها: «معروف أن صراعات دول التحالف ستنعكس علينا. لكن لا يمكننا منع تلك الصراعات أصلاً!». المسألة أكبر منا. مطلب استعادة الدولة والشرعية مطلبنا جميعاً. وأظن أنه لا وجود لـ«الإخوان» في اليمن باعتراف «الإصلاح» نفسه.
الكرة الآن في مرمى «الإصلاح» يمنياً. والحال أن أي إصرار سياسي قطري على اللجوء إلى إيران خلال هذه الفترة، هو تثبيت للعلاقة القطرية الإيرانية وورقة كبرى للسعودية ضدها. ثم ما الذي استفادته قطر من «الإخوان»؟ وهذا هو سؤال قطر الوجودي الآن. إن «الإخوان» استفادوا من قطر، ولكن مآلات «الإخوان» ومشروعهم حالياً في الحضيض.
وبالعودة الى أدوار الفاعلين الإقليميين في اليمن، تشير المعطيات إلى عدة أدوار جديدة ومستحدثة للدول الإقليمية في الأزمة اليمنية، بحيث ستتحول سياساتها، رغم كل المحاذر والمخاوف وارتدادات الصراع الخليجي الخليجي على اليمن، وذلك على قاعدة توسع المصالح السياسية والاقتصادية بين اليمن وجيرانها. ما لم… فإننا سنبدد اللحظة التاريخية، كما ستتعمق الانقسامات فيما بيننا كيمنيين بصورة أفدح. والخلاصة أنه عندما تنتهي مشاريع الحروب ستبدأ مشاريع السلام.
أما الميليشيات المسلحة، فهي الخصيصة العربية التي تزدهر في معظم الدول، التي تم ضرب وتجريف جيوشها بالولاءات غير الوطنية، تارة بالحروب الأهلية، وتارة بسبب التدخلات الخارجية. كما أن الأنظمة الرثة والنخب الانتهازية قد عملت معاً على حرف الصراع بمضامينه السياسية والإجتماعية والإقتصادية، ليتحول إلى مجرد صراع طائفي صغير، لا يصب في صالح مشاريع استعادة الدولة الوطنية التي توفر المصالح لكل مواطنيها، وتصون الأمن الإقليمي العربي الضامن.
ومن هنا، للأسف سنظل نشدد على أن إيران ستظل تنتصر ما دام العرب يؤججون خصوماتهم ولا يمتلكون مشروعاً تحررياً تحديثياً ديمقراطياً. ذلك أننا ونحن في عز دوامة الصراعات الداخلية والخارجية، يتوجب علينا عدم السهو أبداً عن تداعياتها المؤثرة ذات التحولات الخطيرة. ففي خضم الصراع اليمني الفارسي، والصراع الخليجي الفارسي، والصراع اليمني اليمني، والصراع الخليجي اليمني، ينبغي على اليمن أن تنجو أيضاً من الصراع الخليجي الخليجي، الذي له آثاره الانعكاسية على اليمن بالضرورة، فهناك الصراع العماني الإماراتي، والصراع الإماراتي السعودي، والصراع القطري السعودي، والصراع الإماراتي القطري، والصراع السعودي العماني… صراعات مزدحمة بمشاريع تنتمي إلى ما قبل فكرة الدولة والهوية الوطنية، بل إنها ناتجة أساساً عن صدام الهويات السياسية العميقة والطارئة في المنطقة ببعضها، بينما لن تنجو اليمن إلا بتعزيز هويتها التاريخية، واستيعاب أهمية إدارة الصراع الداخلي والخارجي عبر إطار وطني، فضلاً عن عدم التماهي مع ما يجرد اليمن من أفقها العروبي بالضرورة.
والشاهد أن الخيارات صعبة والتحولات مفصلية، إلا أنها ستترك بصمات فادحة على الحاضر والمستقبل، ما يجعلنا نأخذ في الاعتبار كافة أبعاد ما تشكله هذه اللحظة التفتيتية الانفعالية المتوترة التي تتعزز بفعل عوامل داخلية وخارجية هوجاء وبلا أفق، كما تتقاطع فيها عدة مصالح أنانية واستغلالية وانتقامية دولية وإقليمية ومحلية أيضاً. ما لم… فإن كل العوامل الصراعاتية الناشبة في المنطقة ستفضي إلى تجريف الذات اليمنية نهائياً، وصعود وتنامي الهويات الطائفية المأزومة تماماً، الأمر الذي سيكرس اضمحلال الشخصية الوطنية، وبالتالي بروز هويات يمنية أكثر من مشوهة.
فبعد إصابة الكيان اليمني بإشكاليات وجودية رهيبة الأثر، وتحول اليمن والهوية اليمنية العليا إلى مجرد ركام، ستظل الذات اليمنية تعاني من أزمات جوهرية إلى ما لا نهاية.
وبالمحصلة، لن نتمكن حينها على الإطلاق من إيجاد أي إمكانية للخلاص من مستنقع الانقسام والتشظي والاندثار، بحيث سنكتشف – وقد فات الآوان – أننا صرنا عدة شعوب في عدة دويلات للأسف، بينما لم نتوقف لحظة لندرك إلى أي هاوية بلا قرار ستفضي بنا مآلات خفة التعامل مع الهوية التاريخية، اليمنية والعربية التحديثية، وفشل مشروع الدولة والمواطنة، وتصفية اليمن من اليمن.