الصباح اليمني_مساحة حرة|
إن كانت الأجساد تموت وتفنى فإن الأرواح تظل وتبقى …روحك ترفرف في سماء تاريخ اليمن من الحيمة كانت شعلتها… عرفناك بالعلم عن قرب فكنت قريبا أكثر من القلب إنك الحي فينا… لم تمت رسالتك ..
لقد تشرفت بمعرفة البروفيسور محمد أحمد الكامل قبل عشرة أعوام عندما كنت تلميذا له ونهلت من غزير علمه وتعلمت من فضائل أخلاقه.
فكان دائما أبا وأخا عاملني بعظيم كرمه وفتح لي بيته وقلبه وحرص على مصلحتي كابنه.
ما بخل يوما علي بعلم أو بوقت كان يوجهني ويرشدني وينصحني.
وكان يتعهدني ويرعاني منذ أن تتلمذت على يديه في مرحلة البكالوريوس بقسم التاريخ وكذلك في الدراسات العليا
لقد شرفت بإشرافه على رسالتي في الماجستير مشرفا مشاركا؛ فتعلمت منه الدقة العلمية والأمانة البحثية.
كان لي ولزملائي بمثابة الأب الحنون الذي كان دائما يمدنا بالحب والعطف والنصائح
ندين له بالفضل والعرفان على ما قدمه لنا من علم
كم من ذكريات قضيتها معه أسترجعها في دقائق بعد أن خطف الموت حياته …
لقد اشتركت معه في بحث محكم عن إسهامات المرأة اليمنية في أعمال البر والخير خلال حكم دولة بني رسول في اليمن تقدمنا به لندوة علمية عقدت في القاهرة في عام 2017م
وشرفني بحضوره مراسيم عرسي وأعارني كاميرته الخاصة kanw وكان كثير السؤال عني عند غيابي
وعادة ما كان يطلق علي برجل المهام الصعبة ففي بعض الأحيان كان يهاتفني ويبعث إلي بأوراقه ويكلفني باستكمال المعاملة الخاصة به في رئاسة الجامعة والخدمة المدنية فكنت أقوم بإنجاز معاملته على أكمل وجه.
وكان رحمه الله يعتمد علي في تصحيح بعض الأخطاء غير مقصودة في كشوفات رصد الدرجات وكذلك في حل بعض المشاكل التي قد يعاني منها طلاب قسم التاريخ خاصة (المتخرجين) منهم في سجلاتهم الأكاديمية.
لقد بنى لنفسه طيلة أيام حياته مكانا لا يرقى إليه إلا أمثاله من العلماء.
فكل من عرفه سواء باللقاء المباشر أو عن بعد عبر قراءة مؤلفاته وخاصة موجز تاريخ اليمن الإسلامي يعرف يقينا أنه كان علما من أعلام التاريخ الإسلامي وحضارته.
لقد كان أستاذي الكامل رحمة الله عليه عالما لا يجاريه أحد.
وكان أيضا فاضلا وخلوقا ومؤدِّبا ومنصفا للحق
إلى جانب ذلك كان مثالا للخلق الطيب والمعلم الملهم
فمواقف الراحل رحمة الله عليه نحوي كثيرة، وهي مواقف تأسرني بجمالها وعظمة الأخلاق فيها حسبي أن أعمد هنا إلى سرد بعضٍ منها:
وأهم هذه المواقف يوم أن التقيته في لجنة المناقشة التي عقدت لي من أجل مناقشتي في اطروحة الدكتوراه، فكان من بين لجنة المناقشة الأستاذين القديرين الاستاذ الدكتور الفقيد الراحل عبدالرحمن عبدالواحد الشجاع والأستاذ الدكتور سفيان المقرمي، وبحسب الأعراف والتقاليد العلمية بدأ بالمناقشة المناقش الخارجي د. سفيان المقرمي بالسؤال عن مضمون البحث وبيان محتواه وبعد مرور عشرين ثانية من الصمت قبل أن أبدأ بالجواب تهيبا للموقف إذا بالراحل يشق هذا الصمت بحركة جمالية تبدو عفوية لكنها مقصودة وكأنه يقول تكلم لقد جئنا لنحتفل بك اليوم ونتوجك باللقب(دكتور).
ومنها أيضا : وقوفه بجانبي في آخر مشكلة تعرضت لها أثناء إشرافي على امتحانات طلاب علم الاجتماع قبل عامين عندما أساء الظن بي عميد الكلية …
لقد كان آخر لقاء جمعني به قبل وفاته بخمسة أيام هو ذلك اللقاء الودي في حفل التدشين الذي رتب له طلابنا في المستوى الرابع وكأنه كان الوداع الأخير لأستاذنا الكامل دون علمنا والذي حضر فيه غالبية أعضاء هيئة التدريس في قسم التاريخ
وبالفعل كان ذلك اللقاء هو الوداع الأخير تبادلنا خلاله الحديث فيما بيننا واستمعنا لكلام فقيدنا والتقطنا بعض الصور التذكارية معه ومع طلابنا وودعنا بعضنا على أمل اللقاء مرة أخرى ولكنه كان اللقاء الأخير فلم أقابله بعد إلا وهو مسجى على سرير الموت في الجامع الكبير…
لم أصدق لأول وهلة عندما بلغني نبأ رحيل البروفيسور محمد أحمد الكامل عبر وسائل التواصل الاجتماعي حقا …ولكن كيف لا أصدق وأنا أعلم أن كل من عليها فان ويبقى وجهك ربك ذو الجلال والإكرام.
لقد رحل عنا رجل التسامح البروفيسور محمد أحمد الكامل…رحل الكامل العالم الجليل الصابر المحتسب…
نعم رحل بطريقة الكبار…رحل صاحب العلم الغزير والخلق الرفيع.
رحل من علمني الصبر واحترام الغير
رحل مخلدا عطره في بستان التاريخ .
كم قاسى الرحيل بعد أن صارع وقاوم الجوع _ نتيجة انقطاع مرتباته – والمرض فصبر ولم يتألم ولم يتضجر.
وأخيرا وإن غيبه الموت عنا فقد علّم أجيالا من المؤرخين؛ فله الرحمة ولذويه الصبر والسلوان.
د. مصطفى غشيم
استاذ التاريخ الإسلامي وحضارته المساعد بقسم التاريخ والعلاقات الدولية بجامعة صنعاء.