لم يشعر بالإحراج أبدا، مجلس وزراء الخارجية العرب، في اجتماعهم الدوري 155، يوم 3 آذار 2021 ، بالحديث عن الأمن القومي العربي، ثم التمديد لأمين عام الجامعة العربية الحالي، الذي ماتت في عهدهِ الجامعة العربية بالكامل..
رُبّما من أثاروا هذا الموضوع تقصّدوا أن يُضْفُوا على اجتماعهم روح النُكتَة لإضحاك الشعوب العربية التي هي بأمسِّ الحاجةِ إلى نُكتةٍ تضحكها قليلا، بعد كل هذا الوجوم والإحباط البادي على وجوه هذه الشعوب من المحيط المُهروِل نحو التطبيع الإسرائيلي، إلى الخليج المُتسربِل بالرِداء والدّرع الإسرائيلي.
آخر معاني الغيرة على الأمن القومي العربي تجلّت خلال حرب تشرين/ أوكتوبر عام 1973، وبعدها بدأ
انتهاك حُرُمات وأعراض وبُكارات هذا الأمن القومي العربي، منذ أربعٌ وأربعون عاما، وما زال مُستمرا بأسوأ وأبشع صوره..
فأول الانتهاكات للأمن القومي العربي، افتُتِحَتْ بزيارة الرئيس الراحل أنور السادات إلى القدس عام 1977، وإلقاء كلمة أمام الكنيست الإسرائيلي..
وثانيها، كانت اتفاقية كامب دافيد عام 1978، وثالثها، كانت اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل عام 1979، وتبادُل افتتاح السفارات، ثم خروج مصر نهائيا من معادلة الصراع العربي مع إسرائيل التي تُشكِّلُ أكبر تهديد للأمن القومي العربي، قديما وحديثا، وقبلَ أن يحصل الشعب العربي الفلسطيني على ذرّة من حقوقهِ في تأسيس دولتهِ المُستقلّة، وعاصمتها القُدس.. وقبل أن تنسحب إسرائيل من الأراضي السورية واللبنانية المُحتلّة، وما تزالُ مُحتلّة..
ثُمّ كانت حرب الخليج الأولى بين العراق وإيران، والتي استمرّت ثمان سنوات، ما بين 1980 و 1988 ، هي أيضا ضربة كبيرة للأمن القومي العربي لِما تسبّبت به من انقسامات عميقة على الساحة العربية، شعوبا ودولا..
وبعدها كانت حرب الخليج الثانية التي بدأت، بِغزو العراق للكويت في أوائل آب 1990 ، وضَمُّ العراق للكويت واعتباره محافظة عراقية، ثمّ قيام تحالُف دولي بقيادة الولايات المتحدة، وإعادة تحرير الكويت في شباط 1991 .. وقد شكّلَ كل ذلك ضربةً قاتلة للأمن القومي العربي..
**
نتيجة التشرذم والضّعف العربي الذي حصل بعد حرب الخليج الثانية، قَبِل العرب بِمؤتمر مدريد للسلام مع إسرائيل، في 30 تشرين أول 1991 ، وبدلَ أن يكونوا وفدا واحِدا مُفاوِضا للنهاية، فقد ذهبَ كُلٍّ في طريقهِ بعيدا عن الآخر، واستفردَت بهم إسرائيل..
وبدأ كل طرف عربي يرى أمنهُ في مصالحِ بلادهِ الخاصّة، ورفعَ الكثيرون شعار: بِلادي أوّلا، وهكذا تمَّ التخلِّي عن فكرة الأمن القومي العربي المُشترك..
فذهبت منظمة التحرير الفلسطينية نحو اتفاق أوسلو في أيلول 1993 ، ثُم اتفاق واي بلانتيشين في تشرين أول 1998 ..
وذهبت الأردن نحو اتفاقية وادي عربَة عام 1994.. وذهبت سورية، بعد أن باتت وحيدة، نحو المفاوضات المُباشَرة مع إسرائيل في واشنطن، ولكن هذه لم تُثمِر عن أية نتائج..
كل ذلك أودَى بِالأمن القومي العربي إلى الهاوية..
ثم كان العدوان الإسرائيلي على لبنان عام 1982، وخروج منظمة التحرير الفلسطينية، وما تلى ذلك من زيادة الضّعف والتشرذم العربي، سببا لمزيد من الانهيار للأمن القومي العربي..
وجاء غزو أمريكا للعراق عام 2003 (حرب الخليج الثالثة) ليقتُل كل ما تبقّى في الأذهان من شيء اسمهُ أمن قومي عربي..
وكان ما كان في تونس ومصر وليبيا وسورية، في أواخر 2010 وبدايات 2011 ، ثمّ احتلال ليبيا (بِشرعَنَةٍ من الجامعة العربية)، والحرب في سورية، والتدخلات العربية والإقليمية والدولية، كان كل ذلك رصاصات الرحمة على الأمن القومي العربي..
وزيادة في الطين بلّة، كان الخلاف المغربي الجزائري حول مسألة الصحراء الغربية، وما يزالُ قائما، وإغلاق الحدود بين البلدين، مؤثِّرا على الأمن القومي العربي..
وكان الصراع بين قطر من جهة، وبعض الدول العربية من جهة أخرى(قبل المُصالَحَة) ضربةٌ للأمن القومي العربي.. وكذلك كانت الحرب في اليمن، صفعةٌ ما بعدها للأمن القومي العربي..
**
وأخيرا كانت اتفاقات التطبيع مع إسرائيل من طرف العديد من الدول الخليجية والعربية، ودون أن تستجيب إسرائيل مقدار ذرّة للمطالب العربية في قمة بيروت 2002 وخطّة السلام العربية، أكبرُ رصاصة في قلب الأمن القومي العربي..
هذه الاتفاقات التي كانت مصر، بل وزير خارجية مصر، أول من يُصدِر البيانات لِدعمها وتأييدها..
**
ليس ما تقدّم آنفا فقط كان التهديد للأمن القومي العربي، بل إن الأوبئة والأمراض والتخلُّف والفقر والجوع والبطالة والفساد والاستبداد، ونهبِ الشعوب وتهميشها والدّوس على إرادتها، وكبتِ أنفاسها، والصراعات بينها وبين الأنظمة، وتحويل الدول إلى مزارع وإقطاعيات لأهلِ الحُكم والنفوذ ومن لفَّ لفيفهم من أهل وأقارب وأصحاب وأحباب وحواشي، كل ذلك هو خطرٌ دائمٌ ومستمرٌّ لكل أشكال الأمن القومي العربي..
**
بعد كل هذا التصدُّع والانهيار العربي، والتدخلات والاحتلالات الأجنبية، والقواعد العسكرية، والتشرذم الذي هو أسوأ من التشرذم في زمن ملوك الطوائف في الأندلُس، ما زال هناك من يتحدثون عن الأمن القومي العربي..
لا عَجَبا، فهذه آخر دورة لأمين عام الجامعة العربية الحالي، وبعد أربع سنوات سيتمُّ اختيار شخص آخر، ويجب أن يكون من مِصر( ولا أعرف لِماذا هذا الاحتكار) ولهذا لا بأسا أن يبدأ وزير الخارجية السيد سامح شكري، الدعاية الانتخابية، وشعارها: الأمن القومي العربي.. ولعلّهُ لا يجهلُ أنّ بلادَه هي أوّل من انتهكَ كل معاني وحُرُمات هذا الشعار..( أرجو أن لا يؤاخذني فأنا زميل دبلوماسي لمدّة 34 سنة، واشتغلتُ في نيويورك في الثمانينيات وتعرفت حينها على أساتذتهِ، عصمت عبد المجيد، وعمرو موسى، حيث كان الأول السفير المندوب الدائم، والثاني نائبا له)..
**
نعم الأمن القومي العربي، وخاصّة أمنُ بلاد الشام والعراق والخليج وبلاد الكِنانة، وما ورائهما، هو أمنٌ متكاملٌ ، وقد تحدّث عن ذلك الشاعر الكبير أبو الطيب المتنبي منذ أكثر من ألف عام، في قصيدتهِ التي امتدح فيها ” سيف الدولة الحمَداني”، أي ( علي بن حمدان التغلبي) الذي كان يزود عن حمى الديار في وجه الروم، فقال لهُ:
ليس إلّاكَ يا عليُّ هُمامٌ + سيفُهُ دون عِرضِهِ مسلولُ..
كيف لا يأمنُ العراق ومصرُ+ وسراياك دونها والخيولُ؟!..
لو تحرّفتَ عن طريقِ الأعادي + ربطَ السِدرُ خيلَهم والنخيلُ..
أنتَ طول الحياة للرومِ غازٍ + فمتى الوعدُ أن يكون القفولُ..
ما الذي عندهُ تُدارُ المنايا + كالذي عندهُ تُدارُ الشمولُ..
**
أي لو أن سيف الدولة الحمداني (الأمير علي بن حمدان التغلبي) ابتعد عن طريق الأعداء الروم، لاحتلوا العراق ومصر، وربطوا خيولهم على شجرِ النخيل في العراق وشجرِ السِدر في مصر.. ولكن من يزودون عن الحِمى، ويخوضون المعارك والحروب دفاعا عن شرف الأمة وكرامتها (المنايا)، ليسوا كمَن يشتغلون بالّلهو والمُتعة والبذخِ والرفاه والاسترخاء والملذّات (الشمول) ..
فالمتنبي ربطَ بين أمنِ العراق وأمنِ مصر، منذ ألفِ عامٍ..
**
والمعذرة إن قلتُ أخيرا أن أكبر انتهاك للأمن القومي العربي، أن يكون أكبر صديق لإسرائيل، هو أمين عام الجامعة العربية..
**
بدايةُ استعادة الأمن القومي العربي، تبدأُ ببداية امتلاك الشعوب العربية للقرار.. أو بإعادة إحياء سيفُ الدولة الحمداني.. وإلّا فلا أمن قومي عربي، ولا عرَبا..