الصباح اليمني_مساحة حرة_الدكتور: عبدالله أبو الغيث|
في بداية هذا الشهر، تحديداً يوم الأحد 3 يناير 2021 أتانا الخبر المفجع بوفاة أستاذ الأساتذة في قسم التاريخ بكلية الآداب جامعة صنعاء الأستاذ الجامعي الملهم والمؤرخ الألمعي الذي لا يشق له غبار البروفيسور سيد مصطفى سالم.. وصلني الخبر وأنا في لحظة من السعادة حيث كنت أقوم بمداعبة ابني الصغير يزن (آخر العنقود) في ذكرى ميلاده الأولى التي تصادف ذلك اليوم، فانقلبت الفرحة إلى حزن أليم.
ولمن لا يعلم عن سيرة أستاذنا القدير البروف سيد سالم فهو ينتمي إلى مصر الكنانة، لكنه ارتبط باليمن وتاريخها منذ دراساته العليا، حيث حضّر الماجستير عام 1962م والدكتوراه عام 1968م عن تاريخ اليمن الحديث والمعاصر، وكانت رسالته وأطروحته من بواكير الرسائل العلمية التي يتم تحضيرها عن التاريخ اليمني في الجامعات العربية.
وبعد أن تم تأسيس جامعة صنعاء كأول جامعة تقام على أرض اليمن وبصحبتها جامعة عدن في العام الدراسي 1971-70، كان قسم التاريخ من بين التخصصات العلمية التي تكونت فيها، فتم انتداب الدكتور سيد سالم للإعارة من جامعة عين شمس المصرية إلى جامعة صنعاء اليمنية ليُدَرِّس فيها المقررات الخاصة بالتاريخ الحديث والمعاصر، وكان قدومه إلى اليمن في شهر أكتوبر عام 1971م، ضمن كوكبة من الأساتذة العرب والأجانب قامت جامعة صنعاء الناشئة باستقدامهم للتدريس فيها على نفقة دولة الكويت الشقيقة التي تكفلت ببناء الجامعة.
وبعد أن انتهت مدة إعارة أستاذنا القدير الدكتور سيد سالم فضل البقاء في اليمن التي عشقها وعشق تاريخها، فقابلته اليمن وفاء بوفاء حيث تم منحه الجنسية اليمنية بقرار من رئيس دولة اليمن (الشمالي آنذاك) خالد الذكر الرئيس الشهيد إبراهيم محمد الحمدي يرحمه الله، الذي حكم خلال الفترة الممتدة بين عامي 1977-74م.
وقد استمر أستاذنا الجليل يعمل في قسم التاريخ بجامعة صنعاء حتى اشتعلت الحرب التي تشهدها اليمن حاليا في العام 2015م وكان في زيارة لمسقط رأسه مصر، وأدى إغلاق مطار صنعاء بسبب الحرب إلى منعه من العودة إلى اليمن، حيث وافاه الأجل وهو يواعدنا بقرب قدومه إلى اليمن، لكن الأقدار كان لها رأي آخر، وكانت آخر خدمة قرر أن يسديها لليمن وشعبه الذي صار فردا فيه هي إعلانه قبل وفاته تبرعه بمكتبته الخاصة التي تركها في اليمن، حيث طلب تسليمها لمكتبة جامعة صنعاء العامة، في ظل ظروف لسنا بوارد ذكرها هنا ونحن نرثي رحيله المؤلم عنا.
وكان ذلك العمل تتويجاً لخدمات كثيرة قدمها لوطنه اليمن، حيث ألف أكثر من عشرة كتب قيمة عن تاريخه، إلى جانب بحوث ومقالات صبت في ذلك الاتجاه، ومعها العديد من الاستشارات التي قدمها لصناع القرار طوال فترة تواجده في اليمن، خاصة منها تلك الاستشارات المتعلقة بحقوق اليمن التاريخية في أراضيها خلال النزاعات التي أثيرت بخصوص ترسيم حدودها البرية والبحرية.
وكان من حسن حظ أستاذنا الراحل أن خزائن المخطوطات والوثائق اليمنية قد فتحت له، ثقة به وتقديراً لجهوده في خدمة اليمن وتاريخها، خصوصاً انه قد تمكن من الوصول إلى مجالس القات (المقايل) الخاصة بالنخبة، ومن يعرف اليمن يدرك أن تلك المجالس تمثل منفذا مهماً تتسرب من خلاله أسرار اليمن المكنونة، خصوصا ماله علاقة بالأوضاع السياسية ودهاليزها المخفية، وهو ما جعل أستاذنا يصبح مستشاراً غير معلن لكثير من قادة اليمن وساسته.
وأصبح الأستاذ الدكتور سيد سالم بمثابة الأب الروحي للمؤرخين اليمنيين الذين تكاثروا بعد ذلك وتوزعوا على أقسام التاريخ المختلفة التي تم فتحها في الجامعات اليمنية العديدة التي توالت عملية تأسيسها تباعا، وكان من ضمن تلاميذه من هم أساتذة لي أنا وجيلي من المؤرخين، وبينهم من هم طلاب لجيلنا، فهو أستاذ لأجيالٍ متسلسلة من المؤرخين اليمنيين بمختلف تخصصاتهم وليس في مجال التاريخ الحديث والمعاصر فقط.
وقد كان المرحوم البروف سيد سالم قريبا من كل طلابه، سواءً من درّسهم في مرحلة البكالوريوس أو من أشرف عليهم وناقشهم في الدراسات العليا، وعل ذلك هو ما جعل طلابه يبادرون في عام 2013 لتنفيذ خطوة تكريمية له، حيث طبعوا كتاباً خاصا به أسموه (سيد مصطفى سالم .. المؤرخ الإنسان) جمعوا فيه بحوثاً مهداة له، ومقالات كتبت عنه، وملخصات للرسائل والأطاريح التي أشرف عليها، وكان لي شرف المساهمة فيه بمقالة عنونتها (القادم من أرض الكنانة.. ومرض السعيدة الأخطر) حكيت فيها بعض الذكريات المرتبطة بأستاذنا وأسرته أثناء قدومه الأول إلى اليمن والتي كان يحكي لنا بعض منها في جلساته.
وكانت فكرة ذلك الكتاب التكريمي فكرة رائعة ونادرة، حيث كُرِّمَ أستاذنا القدير وهو على قيد الحياة، على عكس ما يحدث في اليمن وبقية وطننا العربي الكبير مع الأسف الشديد، حيث لا نسمع عن تكريم كثير من أعلامه في هذا القطر أو ذاك إلا بعد رحيلهم إلى العالم الآخر.
وشخصياً فقد تتلمذت على يد أستاذي الدكتور سيد سالم في مرحلة البكالوريوس أثناء دراستي في قسم التاريخ بجامعة صنعاء خلال النصف الثاني من عقد الثمانينات في القرن العشرين، وحتى بعد تخرجي وتعييني معيدا في القسم في مجال التاريخ القديم لم تنقطع علاقتي العلمية به، فقد كان يرحمه الله ملجئي المفضل للاستفسار عن أي معلومة تستعصي عليّ في مجال التاريخ الحديث والمعاصر، إلى جانب أستاذي الفاضل عافاه لله البروف عبدالرحمن عبدالواحد الشجاع في مجال التاريخ الإسلامي، وقبلهم ومعهم أستاذي القدير البروف عبدالله حسن الشيبة حفظه الله الذي أشرف عليّ في مساق الماجستير والدكتوراه، وذلك طبعا إلى جانب أساتذة أفاضل تتلمذنا على أيديهم أنا وزملائي في مختلف المراحل الدراسية ونقدرهم ونجلهم جميعا، لكننا لسنا بصدد الحديث عنهم هنا.
وعل ذلك هو ما كان يجعل أستاذي البروف سيد سالم يهديني بعض الكتب التي تصله عن التاريخ القديم، حيث أهداني يرحمه الله أكثر من كتاب، فقد كان شعاره بأن الكتاب لمن يستفيد منه، وذلك ما زادني ارتباطاً به، خصوصا وهو مدرسة في التعليم فقد كان يقول لنا في مرحلة البكالوريوس: لا أريد من طلابي أن يعيدوا لي في إجاباتهم ما هو في الكتاب المقرر عليهم أو ما قلته لهم أثناء المحاضرة، لكني أريد أن أرى في إجاباتهم شخصياتهم العلمية وقدراتهم في إعادة صياغة المعلومات التي تصلهم. وكان أثناء الامتحان يقول لنا سلامة اللغة شرط أساس للنجاح، وهو ما جعله يمثل مدرسة بالنسبة لي أحاول الاقتداء بها قدر ما أستطيع.. وحتى بعد أن حصلت على شهادة الدكتوراه ثم درجة الأستاذية وأصبحت أحمل لقب بروفيسور لم تنقطع علاقتي به كتلميذ في محراب علمه هو وبقية أساتذتي الأفاضل الذين تتلمذت على أيديهم في مراحل البكالوريوس والماجستير والدكتوراه.
وأزعم لنفسي بأني كنت واحداً من طلابه المهتمين به المتتبعين لاحواله ومشاكله العامة، وكان من تلك المشاكل التي تعرض لها يوم رفضت وزارة المالية اليمنية تقاعده بحجة وجود خلل في توريد أقساط التقاعد الخاصة به بعد انتقاله من مرتب الإعارة إلى مرتبه بصفته موظفاً يمنيا، فكان رأيي بأن الخدمات التي قدمها أستاذنا الجليل لليمن تجعلنا نغض الطرف عن بعض النصوص القانونية التي تمنع حصوله على معاش تقاعدي كامل، وذلك بالنظر إلى روح القانون وليس إلى نصوصه الجامدة فقط، إكراما له ولدوره العظيم في جامعة صنعاء وخارجها، وكتبت يومها مقالاً صحفيا عن هذه المشكلة أسميته (سيد التاريخ وقانون بلا روح).
خلاصة القول: لقد كان لأستاذنا الجليل يرحمه الله دوراً بارزاً في إحياء تاريخ اليمن، خصوصاً في مجاله الحديث والمعاصر، وهو ما يتضح مما ذكرناه أعلاه، ما جعله بدوره الرائد ذاك يصبح علماً من أعلام التاريخ اليمني المعاصر، وسيصبح جزءا من ذلك التاريخ نُدَرِسُه لطلابنا في قادم الأيام، وهي مكانة رفيعة يستحقها أستاذنا الراحل الكبير بجدارة، الذي لا ولن تفارق مخيلتنا ذكرياته الجميلة، بحديثه الهادئ السلس المنصف والمتزن، وبَسْمَتِه الخلابة التي لم تكن تفارق محياه يرحمه الله.
ونختم هذه المقالة بالتوجه بخالص العزاء إلى حرمه المصون وولده العزيز وبناته الكريمات.. ومن الله نسأل لأستاذنا الرحل إلى عفو ربه الرحمة والغفران ولأهله وتلاميذه ومحبيه الصبر والسلوان.. إنّا للهِِ وإنّا إليهِ راجعون.
خليك معنا