هناك إجماع على أنّ الجولة الحالية للرئيس الأميركي دونالد ترامب في الخليج و»الشرق الأوسط»، تحمل في مضمونها طابعاً تأسيسياً لسياسات جديدة مرشّحة، لأن ترث المعاهدات القديمة التي نظّمت العلاقات الأميركية السعودية منذ 1945.
وضرورات التبديل واضحة.. التنين الصيني يتقدّم بسرعة، والروسي يستغلّ الفراغات الأميركية ويملؤها برشاقة، وإيران تتجذّر في بقاع عديدة من العالم الإسلامي.
أمّا اقتصادياً، فلم تستفد واشنطن من «العولمة» التي شكّلت فرصة هائلة لانطلاق أربع مناطق: اليابان، الصين، ألمانيا ونمور آسيا، مقابل ازدياد عدد الفقراء. وهذا عنوان للاستقرار السياسي والاجتماعي في مجمل العالم الغربي، لذلك شكّلت تجربة الرئيس السابق باراك أوباما محاولة لوقف انهيار الاستقرار الطبقي الداخلي، فألفى التدخلات العسكرية الأميركية المباشرة مشجّعاً الوكلاء الإقليميين عليها، وذلك بهدف التوفير، رافعاً من معدّلات الضرائب على الأغنياء لمصلحة بناء نظام صحي يرعى الفقراء.. فماذا كانت النتيجة؟
فرار قسم من أصحاب القوى الإنتاجية إلى الشرق الأقصى وبلدان العالم الثالث، ما أدّى إلى مزيد من البطالة والفقر. كما أنّ فقراء أميركا الجنوبية والعالم الثالث وجدوها فرصة للعمل بأسعار رخيصة في الأسواق الأميركية. أمّا على مستوى الجيوبوليتيك، فقد سعت الصين إلى تصعيد نفوذها في البحار المحيطة بها والمؤدّية إليها، مقابل انحسار نسبي للدور الأميركي.. بالإضافة للدور الروسي الذي بدأ يتمدّد كبقعة الزيت، من دون نسيان إيران التي نجحت في بناء مواقع نفوذ هام لها في مجمل العالم الإسلامي، ونسجت تحالفات مع روسيا لها طابع المرجعيات الدولية القادرة على التنافس.
هذه هي المعطيات التي أدّت إلى نجاح ترامب في الانتخابات الأخيرة، والذي يتحرّك داخلياً وخارجياً في الوقت الحاضر تحت ضغط الحاجة لإيجاد حلول لها.
على المقلب الآخر، تمتلك واشنطن نوعين من التحالفات الأول يتشكّل من دول تاريخية قوية فيها مؤسسات متمكّنة واقتصادات مركّبة كحال اليابان وألمانيا وتركيا وفرنسا وبريطانيا، وتتبادل واشنطن الخدمات مع هذا النمط بشكل شبه متوازن ليس فيه الكثير من الغبن، لأنّ هذه الدول تتمتّع بوجود سلاح لديها هو «الرأي العام» الكثير الاطّلاع والحريص على مصالح بلاده، لذلك اكتفى ترامب بتوجيه ملاحظات عابرة لها حول ضرورات رفع إسهاماتها المالية في حلف الناتو مهدّداً بإلغائه، ومشدّداً على ضرورة أن تدفع اليابان وألمانيا كلفة القواعد الأميركية المرابطة على أراضيهما منذ الحرب العالمية الثانية.
إلا أنّ النوع الثاني من حلفاء بلاده هو المحبب لدى ترامب، والمعوّل عليه لحل المشاكل الاقتصادية… وهي ملكيات أوتوقراطية لا تزال تعيش في القرون الوسطى، أو أنّها جمهوريات بمضامين ملكية ديكتاتورية، وهي غنيّة على مستوى الموارد الاقتصادية لكنّها شديدة التخلف على مستوى النظام الاقتصادي والسياسي، وفيها أنظمة حكم تعتقد أنّ الله أولاها شؤون الناس. إضافة إلى مزايا إضافية لهذه الدول، وأوّلها أنّها مرعوبة من إمكانات التغيير فتخشى «الخارج» الذي يتمدّد والداخل الذي يتفتح، ولم تعد تثق بمعاهدة «كونيسي» التي عقدها سلفهم عبد العزيز مع الأميركي روزفلت في 1945، والقائمة على أساس تقديم الحماية الأميركية مقابل النفط بيعاً واستخراجاً من قِبل الشركات الأميركية.
لكنّ هذا الأمر لم يعُد كافياً، فعائدات النفط تراجعت بفعل انهيار أسعاره إلى أكثر من النصف، وهذا يعني تراجعاً في الأهمية السياسية نتيجة لتقلّص توزيع الرّشى والمكرمات والمساعدات في العالم. لذلك شكّل تراجع أسعار النفط والنفوذ الإيراني المزعوم وانكفاء الأميركيين عن التدخّلات الكبرى هلعاً عند الملكيات الخليجية التي كانت تأخذ على أوباما ميله إلى الانكفاء الذاتي.
فاستغلّ ترامب هذا الرّعب، بانياً عليه سياسات ابتزاز أميركية في إطار خطة جديدة تصل إلى حدود الابتزاز المالي المفضوح والمكشوف، وهذا يتطلّب تسعيراً للصراعات العربية والإقليمية مع عدم السّعي الفعلي لإيجاد حلول لها والحفاظ عليها «خوّافة» ضرورية لتأمين سيناريو «التشليح».
لكن هناك مستجدّات تتعلّق بنواحٍ عدّة: انخفاض أسعار النفط، واكتشاف كميات كبيرة منه في أكثر من منطقة في الشرق الأوسط، ودخول النفط الصخري ميدان التسويق وبدء عصر الغاز، ما يؤدّي إلى تراجع موازنات الدول الخليجية نحو 60 إلى 70 في المئة، ونتيجة لانخفاض الكميات المسموح ببيعها مع تراجع الأسعار.
لذلك تقوم معاهدة ترامب سلمان البديلة من معاهدة كونيسي على أساس إلغاء معاهدة الحماية مقابل إدارة النفط إلى ابتكار مفهوم جديد يستند إلى الحماية مقابل الحصرية الأميركية للتعاملات الاقتصادية الكاملة لهذه البلدان مع واشنطن، أو من ترضى عنه. وللسعودية أيضاً أدوار إضافية في توجيه الدول العربية والإسلامية نحو الولاء الكامل للأميركيين لمجابهة إيران وروسيا ولاحقاً الصين.
إنّ ما تمكن ملاحظته، هو السهولة التي يجري فيها تحشيد البلاد الإسلامية والعربية على القاعدتين المذهبية والسياسية، لأنّها دول لا تستند إلى غطاءات شعبية، أي إنها ضعيفة وتخشى الاعتراضات الداخلية لديها ومتهالكة اقتصادياً. لذلك يمكن استتباعها بسرعة، لكن فاعليّاتها السياسية والعسكرية متدنّية جداً وهي مجرّد قوى صوتية للزوم الإيحاء بوجود نفوذ سعودي.
جولة ترامب إذاً، هي في اتجاه تسعير الفتنة السنّية الشيعية لمحاصرة إيران، ولكي تستمر في السيطرة على الخليج، لا يجب أبداً إيجاد حلول للخلافات الإيرانية الخليجية، كما لا يجب السماح بإعلان حروب حاسمة، وهذا يعني الإبقاء على التوتر للمحافظة على النفوذ الأميركي لبيع السلع والسلاح ومزيد من الابتزاز الدائم، لأنّ واشنطن تعتبر العرب قطاراً بخارياً صاخباً يسطو عليه راعي البقر «الكاوبوي» في الغرب الأميركي في فيلم هوليودي قديم.
وتعمل أميركا على أن تنسحب مفاعيل الفتنة السنّية الشيعية على علاقات العرب والمسلمين بروسيا، لأنّها تؤيّد النظام السوري و»تقتل المسلمين»، في حين أنّ من تقتله الطائرات الروسية هم الإرهابيون الذين تزعم واشنطن أنّها تحاربهم في العراق وسورية وأفغانستان واليمن.
وتأمل واشنطن أن يؤدّي هذا الاحتشاد الإسلامي حولها إلى وقف الزحف الاقتصادي الصيني عن طريق تحقيق مقاطعة نسبيّة لسلعها، فتتراجع صناعاتها ويرتفع معدّل الفقر فيها مؤدّياً إلى صراعات سياسية وطبقية داخلية.
الوسيلة الثانية التي تدفع واشنطن في اتجاهها للمزيد من الإمساك بالعالم العربي الإسلامي، ما تسمّيه بـ»الحل» للقضية الفلسطينية، لكنّه ليس أكثر من تصفية نهائية لها. وهذه الوجهة ضرورية لإضافة «إسرائيل» إلى الحلف الإسلامي السعودي بمسمّى جديد، لربما «ناتو شرق أوسطي»، لأنّ الكيان «الإسرائيلي» هو القوة الأساسية في المنطقة إلى جانب تركيا.. وإزالة خلافاته مع العرب تعني وضع إمكاناته في تصرّف الناتو الجديد من دون استعمال كبير للقوّات الأميركية، وهذا لن يكون إلا على حساب الدعم المالي الخليجي.
إنّما ما يجعل حلّ القضية الفلسطينية مستحيلاً، هما مسألتان: رفض نتنياهو القبول بحلّ الدولتين حتى مع تعديلات في الأراضي لمصلحة «إسرائيل»، وتفضيله تأسيس مجرّد «مخترة» من دون سلاح أو تمثيل خارجي ونظام اقتصادي، بالإضافة إلى إصراره على ضمّ الجولان السوري المحتل بموافقة إضافية… روسية.
لذلك يُرجَّح وضع القضية الفلسطينية في ثلاجة العلاقات الأميركية السعودية بموافقة من السلطة الفلسطينية، ليصبح الاعتراف بـ»إسرائيل» تقليداً عادياً للسلطة الفلسطينية ومصر والأردن وقطر وتركيا وعشرات الدول الإسلامية، وبذلك يمكن للكيان المغتصب أن يشارك في ناتو شرق أوسطي يستهدف إيران بشكل أساس، إنّما بالبعد السياسي فقط ومع شيء من التوكيد الأمني المتواتر للزوم الهيمنة الأميركية الدائمة.
بالمقابل، يزداد الحلف الروسي الإيراني السوري تمكّناً مع اقتراب التحاق العراق به في إطار مشروع مرجعية كبيرة تنافس واشنطن، وتترقّب تحوّلاً صينيّاً نحوها يجعلها مرجعية عالمية أولى.
لقد قدّم هذا الحلف صورة عنه هي الانتخابات الإيرانية التي شارك فيها أكثر من سبعين في المئة من الناخبين في عرس ديمقراطي لم يعرفه العرب حتى اليوم، وتكشف الصورة القرون أوسطية لحكّام الخليج وهم يهرولون كالصبيان أمام وليّ أمرهم ترامب يدفعون له لاستجلاب تأييده.
فكيف يمكن لحكّام أن يقبلوا بشتائم ترامب التي استهدفتهم وهو يطالبهم بالدفع مقابل الحماية ساخراً منها حضارياً! وعندما يشبع من القبض يطلق تصريحاً يقول فيه إنّ هجماته على السعوديين لن تحدث بعد اليوم!
وإذا كانت واشنطن تمنع التسويات في المنطقة، فإنّها تحول أيضاً دون نشوب الحروب الحاسمة، لأنّ توازن القوى أصبح خطيراً ودقيقاً. وعندما يدرك الجيش العربي السوري حدود بلاده مع الأردن والعراق، فإنّنا مقبلون على عصر جديد يبدو أنّه لم يعُد بعيداً مهما عسف الطغيان الغربي وبغى وانحدرت الأنظمة العربية نحو مزيد من الدناءة.