الصباح اليمني_مساحة حرة|
الدراسات الاقتصادية التي لا تُعدّ ولا تُحصى، أفاضت في بحث “الكساد العظيم” الذي وقع في الولايات المتحدة في العام 1929 وأثره في انهيار الاقتصاد العالمي، لكنها في معظمها تتناول تفاصيل الأحداث المالية والأسباب المباشرة التي أدّت إلى انهيار بورصة “وول ستريت” والأسهم المالية والبنوك الكبرى يوم 29 أكتوبر/تشرين الأول، وتداعيات هذا الانهيار في أميركا وأوروبا.
ووفق هذا السيناريو الذي تُنذر باستعادته أزمة كورونا في الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي على وجه الخصوص، يتراءى للبنك الدولي والمؤسسات المالية وأجهزة الدول الغربية شبح “الكساد العظيم” وأثره في الاقتصاد.
زيادة الشَّيء من الشَّيء نفسه
على أساس هذا التصوّر، تسعى الإدارة الأميركية ودول الاتحاد الأوروبي إلى ما تسميه “سياسة تحفيز الاقتصاد”، برصد نحو 8 آلاف مليار دولار، وهو ما يتجاوز مجمل حجم الإنتاج العالمي بأربعة أضعاف، تُضاف إلى ديون الدول الغارقة بالديون (ديون أميركا قبل التحفيز 23 ألف مليار)، فهي تتوخّى “التحفيز” عبر ضخّ أموال دفترية افتراضية لتنشيط البورصات والمصارف والشركات الصناعية الكبرى “المتعثّرة”، ما يفاقم التقشّف والبطالة والفقر.
وفي هذا السياق، تلجأ الإدارة الأميركية ودول الاتحاد الأوروبي إلى إعفاءات ضريبة، وإلى قروض متدنّية طويلة الأجل، وربما تلجأ أيضاً إلى شراء بعض أصول الشركات الكبرى وصناعة النفط الصخري الأميركي، بما يشبه تراجعاً جزئياً عن حرّية السوق، والعودة إلى أحد جوانب “الكينزيّة” الداعية إلى تدخّل الدولة.
لكننا لا نتناول “الكساد العظيم” في هذا المقالة بمقاربة تقنية شائعة عن الاقتصاد المطلق بـ”أل” التعريف، بل نتناوله بقراءة في الاقتصاد السياسي الرأسمالي في تلك المرحلة، مرتبطة عضوياً بنتائج الحرب العالمية الأولى الجيوسياسية. وفي هذا السياق، لم تكن “الكينزية” حلاً لأزمة الاقتصاد الرأسمالي بمقدار ما كانت مدخلاً للهيمنة الاقتصادية الأميركية في الحرب العالمية الثانية وفي المنظومة الدولية الناتجة من الحرب. وعلى أساس هذه القراءة، ربما لا يكون ما بعد كورونا كساد اقتصاديّ بنسخة طبق الأصل عن “الكساد العظيم”، حين كان الاقتصاد العالمي يقتصر على أميركا وأوروبا ومستعمراتهما.
انهيار الاقتصاد الرأسمالي بين حربين عالميتين
ما وُصف قبل الحرب الأولى بالانعزال الأميركي عن العالم، كما هو شعار ترامب “أميركا أولاً”، لم يمنع الولايات المتحدة من توسّع الإمبراطورية وفق “عقيدة مونرو” العام 1823، التي قضت بعدم تدخّل أميركا في أوروبا، مقابل عدم تدخّل الدول الأوروبية في أميركا اللاتينية التي أُطلق عليها حينها اسم الحديقة الأميركية الخلفية، فاحتلّت أميركا ابتداء من العام 1891 حتى مطلع الحرب العالمية الأولى في العام 1912، هاييتي ونيكاراغوا وفنزويلا وهندوراس وكوبا… وضمّت في حروبها مع المكسيك ولايات تكساس وأريزونيا وكاليفورنيا بذريعة الديون، لكن “الكينزية” الاقتصادية بعد الحرب الأولى، صبّت نتائجها فقاعة ازدهار مالي واقتصادي “جنوني” في الولايات المتحدة.
الدول الأوروبية الخارجة من الحرب الأولى اعتمدت على الإنتاج الزراعي والصناعي الأميركي، فتضاعف هذا الإنتاج مرّتين، وارتفعت أسهم الشركات 65% بين الأعوام 1922 و1929. ومع هذه الفقاعة الاقتصادية، ازدهر نموذج الاقتصاد المالي الأميركي الذي يتميّز باحتكار الكارتيلات التي يبتلع كبيرها الأقل حجماً. فعلى سبيل المثال، تقلّص عدد شركات صناعة السيارات من 181 شركة في العام 1903 إلى 44 شركة في العام 1926، وهي الظاهرة نفسها التي شهدها القطاع الزراعي والقطاع الصناعي والقطاع المصرفي (لويس فرانك، التاريخ الاقتصادي والاجتماعي، جامعة السوربون، 1950)، لكن الأسباب المؤسِّسَة للكساد تمتد إلى أبعد من أزمة القطاع المالي وأسهم البورصات، فهي تعود إلى أبعاد جيوسياسية أدّت إليها نتائج الحرب الأولى وهزيمة ألمانيا.
فرضت معاهدة فرساي في العام 1919 وعصبة الأمم على ألمانيا دفع خسائر الحرب إلى فرنسا وبريطانيا بمبلغ 132 مليار مارك ذهبي، فاستحوذت أميركا على نصف الذهب من القروض الألمانية، وباتت الرساميل المالية تدور في متاهة القروض الأميركية إلى ألمانيا التي تدفعها بدورها إلى فرنسا وبريطانيا، ثم تعود من البلدين إلى أميركا لإيفاء خسائر الحرب. فضلاً عن ذلك، أدّت “الهيكلة” المالية والمصرفية في أوروبا إلى هجرة الرساميل للاستثمار في الديون نحو المصارف والبورصة في أميركا، فأصاب الاقتصاد الأميركي “الجنون”، كما يصفه خبراء الاقتصاد، حيث تعرض المصارف وشركات الأسهم قروضاً طائلة سهلة للشركات الزراعية والصناعية التي قفز تصديرها 88% إلى الأسواق الخارجية في أوروبا واليابان وكندا.
ولم يدم “الجنون” أكثر من 5 سنوات في الأسواق المتعطّشة إلى الديون والسلع بسبب الحرب، فما لبثت أن وقعت القطاعات الاقتصادية الأميركية في هاوية الانهيار، بسبب التضخم الخيالي في الإنتاج الذي لا تستوعبه الأسواق الخارجية، نتيجة تدهور القدرة الشرائية وغرق هذه الدول في مأزق الانكماش والديون، فَكُرةُ الثلج التي فجّرت النظام الرأسمال المالي في وول ستريت يوم تأريخ “الكساد العظيم”، تدجرحت من ألمانيا وأوروبا العاجزة عن تصريف الإنتاج الأميركي وتسديد القروض.
تحفيز الاقتصاد وتنشيط الصراع الجيوسياسي
المساعي الحالية التي تقوم بها الإدارة الأميركية ودول الاتحاد الأوروبي “لتحفيز الاقتصاد” بعد كورونا، تقتصر على تدخّل الدولة في تعويم الأسهم المالية والمصارف ورساميل الشركات الكبرى على وجه الخصوص، فهي لا يساورها الشك في أن اقتصاد ما بعد كورونا سيكون نيوليبرالياً، كما كان قبله، وربما أكثر ازدهاراً لاستثمار بعض الشركات والمختبرات في سوق الطبابة والأمصال، لكن التدخّلية “الكينزية” التي تبنّاها روزفلت في العام 1933، بدأها بإقفال البنوك والأسهم المالية مؤقتاً من أجل استثمار الدولة في البنية التحتية.
وفي المقابل، قلّص روزفلت إنتاج الشركات الزراعية الكبرى، بهدف تحويل المزارعين وسكان الأرياف إلى الصناعة التي فقدت أسواقها، لكنه حوّل الإنتاج الصناعي باتجاه الصناعات الحربية، حيث لاقى الأطفال والنساء ما يذكّر بمآسي بعبودية العمال في المصانع والمدن (رواية جون ستابيك، العنب والغضب، جامعة أوكسفورد، 1951).
الدول الأخرى المتضرّرة من نتائج الحرب الأولى اتجهت في المسار الحربي نفسه نحو الحرب العالمية الثانية، أملاً بتغيير المعادلات الجيوسياسية وموازين القوى الاقتصادية، فبدأتها إيطاليا باكراً في احتلال ليبيا وأثيوبيا في مطلع الثلاثينيات، وبدأتها اليابان في احتلال منشوريا من الصين.
لكن ألمانيا الغارقة في الديون والبطالة والأزمة الاجتماعية، اتجهت بعد فشل الثورة الشيوعية ومقتل روزا لوكسمبرغ وكارل ليبكنيخت على يد الاشتراكية الديموقراطية الحاكمة في العام 1019، نحو نازية هتلر الفائز في الانتخابات، الذي حوّل الصناعة كما حوّلتها أميركا، فجيّش ملايين العاطلين من العمل في الصناعة الحربية، وبدأ الحرب في قلب أوروبا بضم النمسا وغزو تشيكوسلوفاكيا وبولندا عامي 1938 ــ 1939.
تباينات بين الأمس واليوم
الحرب العالمية التي مهّدت لها “الكينزية” في تنشيط الاقتصاد لغزو الأسواق، غير قابلة للتصوّر بعد كورونا، إذا جاز لنا التعويل على عدم تهديد وجود الكرة الأرضية بالأسلحة النووية. لكن اقتصاد الربح والمنافسة الرأسمالية ليس حسابات تقنية بحتة، بل يجري تنشيطه للخروج من أزمة الكساد في سبيل طموحات جيوسياسية للسيطرة على الثروات في غزو الأسواق، فحين تعطّلت الحروب الكبرى بعد الحرب الثانية في المراكز الغربية، انتقلت الحروب “الصغرى” إلى الأطراف، في سبيل أهداف جيوسياسية لتنشيط الاقتصاد الرأسمالي في نهب المواد الأولية والسيطرة الاقتصادية (بول جوريون، أزمة الرأسمالية الأميركية، باريس، 2005).
ولم تتغيّر هذه النظرية طيلة الحرب الباردة وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي، التي تتخذ طابع الحروب الاقتصادية والحروب بالوكالة والعقوبات، ومن المرجّح تفاقمها بعد كورونا، لكنها تستند منذ عولمة النيوليبرالية المتوحّشة تحت قيادة تاتشر ــ
ريغان في الثمانينيات، إلى حرب إيديولوجية وإعلامية صلبة غير مسبوقة لترويج النموذج النيوليبرالي، ما يقتضي بحثاً قد نتناوله في مقال لاحق، بيد أن هذه الحرب الإيديولوجية ترتكز على أن الفكر النيوليبرالي ليس إيديولوجياً، بل فكر للسعادة البشرية، إذا جرى تطبيقه “بشفافية وحوكمة رشيدة”، كما بات شائعاً، وأن الاقتصاد النيوليبرالي هو علم تكنوقراطي مجرّد في سبيل الخير العام، منزّه عن المصالح الطبقية والفئوية الخاصة فوق الاقتصاد السياسي.
ما يميّز ما بعد كورونا عن أزمة الرأسمالية قبل الحرب العالمية الثانية ليس استعصاء الذهاب إلى حرب عالمية جديدة فحسب، بل أيضاً استعصاء إنقاذ الاقتصاد النيوليبرالي والعولمة المتوحّشة، فبينما لم يتم الكشف عن أسباب الجائحة وإمكانية تجددها واحتمال تطوير أجيال من الجائحات… تذهب التوقعات الأكثر تفاؤلاً إلى استمرار التباعد الاجتماعي بأشكال متفاوتة مدّة سنتين، واستمرار “الانكماش” أكثر من 5 سنوات، لكن الأزمة التي تكشفها الجائحة ليست في مسألة استمرارية نشاطات الحياة، بل في مسألة استمرارية التوحّش، فقد دلّت الجائحة على أن التوحّش في تسليم الدولة القطاع الصحي ومرافق الخدمات الاجتماعية إلى الرأسمال النيوليبرالي غير قابل للاستمرار في أكثر التوقعات تفاؤلاً.
إن تخلّي الدول النيوليبرالية عن إدارة التوازنات والمصالح في القطاعات الإنتاجية الصغرى والمتوسطة من أجل الاستهلاك المحلي على حساب حرية التجارة الدولية والسوق، يؤدي إلى إفلاس الدولة، وإلى تراكم الديون العامة التي تدفعها الطبقات الفقيرة والمتوسطة إلى واحد في المئة من المنتفعين.
ودلّت الجائحة على أن التوحّش في “تحفيز” الاقتصاد الافتراضي والإنتاج الكمّي المحموم، هو عبودية العصر الجديد في استلاب الوقت والحياة وحرّية القرار، وهو قتل للإنسان والطبيعة.
فعلى الرغم من كل أساطير النيوليبرالية بشأن “ثورة التقنيات والمعرفة” في إنتاج الثروة، يعتمد الإنتاج الكمّي النيوليبرالي، في إنتاج سلع الاستهلاك والغذاء المسموم، على قرصنة العناصر الأولية الطبيعية الأكثر بدائية في الكون، وهي: الأرض الخام، والمياه، والهواء، والمناخ، والطاقة الأحفورية… فضلاً عن قرصنة تراكم خبرات ومعارف الشعوب التي صنعتها تضحيات الأجداد بالدماء والعرق، فهذه الثروات المعرفية والطبيعية التي يبدّدها الاقتصاد السياسي النيوليبرالي، هي إرث الإنسانية جمعاء للأجيال اللاحقة واستمرارية الحياة العاقلة.
وقد تكون الجائحات التي تصيب الكائنات الحيّة من حيوان وإنسان بطاقة حمراء ضد الهمجية في القيادة العالمية، وأحد أوجه غضب الطبيعة ضد التوحّش الغريزي الذي تخاله بربرية النيوليبرالية عظمة “شمشوم” في تحدّيه قوانين الطبيعة وعظمة الخَلق، لكي يهدم الهيكل على الرؤوس.
المقال نقلاً عن موقع قناة الميادين.
خليك معنا