تختلف مكونات العقائد العسكرية للجيوش النظامية للدول باختلاف الأولويات وطبيعة الحكم والنظام في أي دولة، لكن تبقى المصادر التي تصاغ منها العقيدة العسكرية لأي جيش هي نفسها تقريباً. ومنها: العقيدة الشاملة للدولة، والدروس المستفادة من الماضي، والاستراتيجية العسكرية للدولة، بالإضافة إلى التطور التقني.
في حالة السعودية، يلخص العقيدة الشاملة للدولة شعار يبدأ تلقينه للطفل في الصفوف الابتدائية ويرسخ في ذهن العامة: «الله، الملك، الوطن». وبعيداً عن تفضيل الأنظمة الخليجية بعضها على بعض، فإنه من باب المفارقة، أن غالبيتها (كما الكويت وقطر) صاغت شعارها مقدمة «الوطن» على «الأمير»، أي: «الله، الوطن، الأمير». هنا تبدأ الخطوة الأولى في عملية تقديم مصلحة الحاكم على الوطن، وعلى أساس هذه القاعدة، تُبنى المهمة الرئيسية للقوات المسلحة الموكل إليها أساساً حماية الدولة.
إذا درست التجارب الماضية لحروب المملكة السعودية الثالثة المعاصرة، التي أعلنت عام 1932، سنجد أنها اعتمدت أساساً على التأثير العسكري لـ«الميليشيات» منذ بداية سيطرة عبد العزيز على مناطق الجزيرة العربية مطلع القرن الفائت، وصولاً إلى مطلع الثلاثينيات. وعلى مدى العقود التي تلت التأسيس، لم يكن للمملكة أي تجارب يمكن الركون إليها في تقييم الأداء العسكري لجيشها النظامي، عدا الحرب اليمنية بداية الستينيات، التي دفعتها إلى مشاركة جزئية متواضعة عبر «حرسها الوطني»، وكان الاعتماد الأساسي آنذاك على الدعم المالي والتسليحي لحكم «المملكة المتوكلية» في تحقيق النتائج.
إذاً، لم تخض الرياض حروباً مباشرة في السبعينيات والثمانينيات، ومع اجتياح صدام حسين الكويت عام 1990 وتهديده السعودية بعد أشهر من ذلك، قدّم الملك فهد طلباً رسمياً إلى الولايات المتحدة بأن تأتي بجنودها إلى «بلاد الحرمين» لتحمي نظامه من الخطر. لم يكن للسعوديين أي جيش نظامي يمكن الركون إليه، لكن الأميركيين تبرّعوا آنذاك بالترويج لبطولات وهمية للقوات البرية السعودية في «معركة الخفجي»، أملاً في امتصاص رد الفعل الشعبي الرافض لوجود قوات «المارينز» على «أرض جزيرة العرب».
لاحقاً، برز ضعف العقيدة القتالية السعودية في «حرب صعدة» مع حركة «أنصار الله» في اليمن عام 2009، إذ سيطرت الأخيرة على قرابة 50 موقعاً داخل المملكة، عدا مقتل وفقدان العشرات من الجنود في المعارك وتركهم ـــ كما الآن ـــ آلياتهم العسكرية والهرب. أما عن الحرب الأخيرة المستمرة، التي تشنها السعودية منذ آذار 2015، فيمكن القول إن الضعف الكامن في القوات البرية تجلى في أكثر من صورة، منها الاضطرار إلى استقدام مرتزقة للقتال بالنيابة، إضافة إلى الإخفاق والفشل في التقدم على الجبهات المتاخمة للحدود وفقدان السيطرة على مواقع وقرى رغم دعم سلاح الجو المتفوق.
لا تزال مسيطرةً عقدةُ التفوق على الجيران والتباهي بلا قوة حقيقية
أما عن الاستراتيجية العسكرية للدولة، فتغيب فيها سعودياً محددات تمثّل الحد الأدنى المطلوب توفره في الجيوش النظامية، بل إن استراتيجية الرياض كانت ولا تزال تعتمد على الوكيل (مثل تنظيمات مسلحة ذات أيديولوجيا وهابية) في إنجاز المهمات، كذلك لم يكن لدى قادة السعودية يوماً أي نية لتطوير أسلحة محلياً رغم توافر المال والمواد الأولية، بل إن التطور التقني الغربي له سوقه المربحة في الرياض. وهنا تغيب العلاقة العاطفية المطلوبة في العقيدة القتالية للجندي بسلاحه المنتج وطنياً حين يستعمله في معاركه، بالإضافة إلى الأثر السلبي للاعتماد على الأجنبي في تأمين التسليح.
واشنطن وكيلة التدريب
بعدما هزم عبد العزيز آل سعود ميليشيات «إخوان من طاع الله» في آذار 1929 ـــ مدعوماً بسلاح الجو البريطاني ــ بحث تشكيل قوات تكون نواة جيشه النظامي بعد أن تعترف دول العالم بمملكته. فتدرّج في تسميته الإدارة المنوط بها تشكيل هذه القوة، ولم تظهر بوادر تشكّل «جيش نظامي» حتى أوائل الثلاثينيات، مع تأسيس ما سمي «مديرية الأمور العسكرية»، وبعد إعلان تأسيس المملكة بسبع سنوات، تأسست «رئاسة الأركان» عام 1939، وصولاً إلى 10 تشرين الثاني 1943، تاريخ تأسيس وزارة الدفاع. ثم في اللقاء الشهير بين روزفلت وعبد العزيز في شباط 1945، طلب الأخير من الأول أن يرسل بعثة عسكرية أميركية لتشرف على تدريب جنوده.
أرسلت واشنطن عدداً من ضباطها وعسكرييها لاستكشاف المطلوب، وعام 1949 تم تعيين الجنرال ريتشارد أوكيفي أول مسؤول لبعثة التدريب الأميركية، التي لم تبدأ عملها رسمياً إلا بعد أربع سنوات، وذلك بعد توقيع الطرفين ما سُمي «اتفاقية التعاون العسكري المشترك» عام 1951. وفي 27 حزيران 1953، أعلن بدء «بعثة التدريب العسكري الأميركية ـــ USMTM» مهماتها في السعودية، واتخذت مقراً لها في الظهران، ثم انتقلت إلى مقرها الحالي في الرياض في ما يسمى «قرية الإسكان». وتقول البعثة على موقعها على الإنترنت: «إن مهمتنا هي تعزيز الأمن القومي الأميركي ببناء قدرات القوات المسلحة السعودية للدفاع عن مصالحنا المشتركة في منطقة الشرق الأوسط».
في 8 شباط 1977، تم توقيع اتفاقية جديدة تحكم عمل بعثة التدريب حتى اليوم، وفي بندها الثالث لم يُحدد عدد الجنود والضباط الأميركيين الذين يُرسلون للانضمام إلى البعثة، بل تُرك الأمر لوزارة الدفاع ورئاسة هيئة الأركان السعودية لتحديد العديد وفق الحاجة وبالتشاور مع البنتاغون. كذلك، يشرح البند الخامس من الاتفاقية مهمات البعثة ووظيفتها، فهي مسؤولة عن تقديم خدمات استشارية في «التخطيط، التنظيم، التدريب، الدعم اللوجستي والتسليح»، كما أعطيت البعثة امتياز طلب شحنات السلاح للسعوديين ضمن ما يُسمى «برنامج المبيعات العسكرية».
وفي البند السادس، تم ترسيخ مبدأ تحصين المعلومات التي تمتلكها البعثة والضباط الأميركيون عن هيكلة القوات المسلحة السعودية وأدائها، وتعهدت واشنطن بموجب هذا البند إلزام ضباطها (حتى بعد تقاعدهم) بمنع الإفصاح عن أي تفاصيل حول طبيعة عمل البعثة وأسرار القطاع العسكري السعودي. وبالفعل، قلما تتوفر معلومات في هذا الشأن في الكتب والأبحاث الأميركية. أما البند السابع، فقضى بتعهد السعوديين إعفاء العسكريين الأميركيين من أعضاء البعثة من الرسوم الجمركية والضرائب، فيما ألزم «التاسع» السعوديين تقديم المساكن اللائقة بأعضاء البعثة وتحمل تكاليف «خدمات النقل والغذاء وخدمات الترفيه والأثاث والطبابة»، والسماح للطائرات العسكرية الأميركية بالهبوط والإقلاع من المطارات المدنية والعسكرية السعودية من دون أي رسوم مالية.
عقب حرب الخليج الثانية عام 1991 وتحرير الكويت، حاول الأميركيون تعديل الاتفاقية مع السعوديين لإنشاء المزيد من القواعد العسكرية ومضاعفة وجودهم على أراضي المملكة، لكن النظام السعودي كان يواجه آنذاك رفض التيار الديني «الصحوي» الوجود الأميركي المتصاعد وحالة من المعارضة الشعبية على الأرض، ما أعاد الاتفاق إلى ما كان عليه عام 1977، وعقب هجمات 11 أيلول 2001، توترت العلاقة بين واشنطن والرياض وأثّر هذا في بعثة التدريب الأميركية، لكن سرعان ما عادت المياه إلى مجاريها بين الطرفين.
نقاط الضعف
تسرّب قبل أعوام تقرير عسكري أميركي سري معدّ عام 2008، صادر عن «وحدة النشاط الاستخباري التابعة لقوات مشاة البحرية الأميركية» ، هو دليل للعسكريين الأميركيين الذين يُرسلون إلى السعودية ضمن بعثة USMTM، ويشرح الدليل للعسكري الأميركي كل شيء تقريباً عن السعودية (تاريخها، جغرافيتها، مجتمعها، قواتها المسلحة… إلخ)، وفيه شرح لوظيفة كل قطاع عسكري سعودي، مضيفاً أنه يقدّر عديد القوات بمئتي ألف جندي في الخدمة، وما يقارب عشرين ألفاً في الاحتياط، وخمسة عشر ألفاًَ شبه عسكري. أما القوات التابعة لوزارة الدفاع، فهي: الملكية البرية، الملكية البحرية، الملكية الجوية، قوات الدفاع الجوي و«الحرس الوطني» التي تتبع وزارة بالاسم نفسه حالياً. كما يوجد حديث عن مشكلة مزمنة في ترغيب الشباب السعوديين في التطوع للقوات البرية، لذلك تخصص رواتب عالية وعلاوات ومكافآت خاصة.
يذكر التقرير أنه رغم وجود قاعدة سكانية كبيرة (كافية لضمان استمرارية رفد الجيش)، وجاذبية المحفّزات المادية، تواجه المملكة صعوبة في عملية التجنيد والحفاظ على ما يكفي من القوى العاملة المؤهّلة للخدمة. يفسر التقرير ذلك بأن «الخدمة العسكرية ليست جذابة لمعظم السعوديين (الذين يعيشون في دولة الرعاية الاجتماعية)، ولأن المجنّدين في أحيان كثيرة ليس لديهم القدرة أو الدافع لتشغيل وصيانة ترسانة السلاح التابعة للقوات البرية، ونتيجة لذلك، تضطر قيادة (الأخيرة) إلى الاعتماد على العسكريين الأجانب والموظفين المدنيين لأداء مجموعة متنوعة من الوظائف من خدمة وصيانة منظومات الأسلحة، إلى عمليات طلب قطع الغيار واللوازم».
أما عن «الجوية»، فيذكر التقرير أنه دوماً كانت مهمة سلاح الجو دفاعية في الماضي، مع محاولات اكتساب مهارات الهجوم، كما «تظهر القوة الجوية السعودية ضعفاً على مستوى التخطيط الاستراتيجي العملياتي في الجو وتنفيذ الخطط على مستوى السرب، مع خلل في مستوى التواصل الذي يحرص السعوديون على جعله مركزياً، فينتج ضعف بنيوي في الاتصالات المشتركة خلال العمليات، بالإضافة إلى امتلاك الطيارين السعوديين خبرة قليلة في العمليات الهجومية، لذلك تلجأ قيادة القوة الجوية على نحو مفرط إلى الدعم التقني الأجنبي والموظفين لإدارة العمليات القتالية وضمان تنفيذها».
وعلى صعيد القوات البحرية، يذكر التقرير أن القيادة السعودية سعت دوماً إلى تطويرها، ولا سيما الأسطول الشرقي، لمواجهة «خطر البحرية الإيرانية»، التي تفوقها خبرة وقوة، لكن يخلص الاستنتاج إلى أن «البحرية» كما باقي القوات «غير مستعدة للتعامل مع اقتناء سفن وتكنولوجيا جديدة، ولا تزال تعتمد على المقاول الأجنبي لضمان صيانة الأسطول والخدمات اللوجستية».
أيضاً، في تقرير الأميركيين شرح لهيكلية وتسليح «الحرس الوطني» الذي من المفترض أن مهمته هي حماية العائلة المالكة والمنشآت النفطية، لكنه ينخرط في مهمات حفظ النظام وقمع النشاط المعارض في الداخل. وفي التقرير، يحظى هذا الحرس ببرنامج تدريب خاص به منفصل عن القوات المسلحة التي تتبع وزارة الدفاع، ويتشكل ربع عديده تقريباً من «الأفواج القبلية» التي تعد حوالى 25,000 عنصر، وهم لا يراجعون مراكز «الحرس الوطني» إلا مرة واحدة في الشهر لقبض رواتبهم… «لكنهم غير مدربين تدريباً جيداً أو مجهّزون، وإنما يستخدمون كوسيلة لدعم الإعانات المدفوعة للشيوخ المحليين للحفاظ على ولاء قبائلهم».
الأمس واليوم شبيهان
بجانب ذلك، صدر أكثر من تقرير أعده أكاديميون وباحثون أميركيون في رصد واقع القوات السعودية. فعام 2002، أصدر «مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية ـــ CSIS»، الذي يتبع للمحافظين الجدد بحثاً حمل عنوان «المملكة العربية السعودية تدخل القرن الحادي والعشرين: البعد العسكري والأمن الداخلي» للباحث أنطوني كوردسمان، وتناول بالمعلومات والأرقام هيكلية القوات السعودية وواقعها. وفيما يتكرر في هذا البحث أغلب ما ورد في تقرير مشاة البحرية الأميركية، فإنه يضيف بعض التفاصيل في مسألة نقاط الضعف لكل قطاع عسكري. مثلاً، يقول كوردسمان إن «سلاح الجو السعودي فشل في تحسين تدريبه وتنظيمه على مستوى القيادة الوسطى والعليا، والعمليات المشتركة في أي شيء من المعدل المطلوب، وهو فشل خطير، إن لم يكن مبرراً».
لا علاقة عاطفية للجندي السعودي مع سلاحه المنتج أجنبياً
وفي معرض حديثه عن القوات البرية، يقول الباحث إن «الحرس الوطني قلما يتعاون على أرض الواقع مع القوات النظامية ووزارة الدفاع، ويقتصر التواصل على اجتماع رمزي واحد في الشهر بينهما، ولا توجد تدريبات مشتركة ذات مغزى مع الجيش النظامي والقوات الجوية، ولم يكن هناك أي جهد لتطوير مفهوم مشترك للعمليات أو لمعرفة هل يمكن لقوات الدفاع الجوي أن تدعم الحرس الوطني في بعض الحالات الطارئة».
يضيف كوردسمان أن «الحرس والقوات النظامية يستخدمان أنظمة اتصالات مختلفة، ولا توجد خطط مشتركة للحرب، ويتطلب أي تعاون مشترك إرسال ضباط اتصال إلى هيئة الأركان للتنسيق». كما يشير إلى أن «الحرس لا يولي أي اهتمام كبير بدول مجلس التعاون الخليجي وقواتها المسلحة، وينظر قادته باحتقار إلى الجيش السعودي النظامي والقوات البرية الخليجية الأخرى، وهم يميلون إلى اعتبار القوات المصرية والأردنية كمثال على الكفاءة العربية». ويختم البحث بتوصيات للقيادة السعودية يقول فيها إن الرياض بالغت كثيراً في إيلاء الاهتمام بعامل «التباهي» بما تشتريه من أسلحة متطورة ومتفوقة على جيرانها، لكن عليها أن تنتبه إلى أن إهمال برامج الإعداد التشغيلي للعنصر البشري والركون إلى المزيد من صفقات السلاح من شأنه أن يعزز حالة الفساد والمحسوبية، ويأتي بآثار سلبية على مستقبل السعودية.
لعل الخلاصة التي صاغها كوردسمان قبل 15 عاماً في عهد وزير الدفاع السعودي آنذاك، سلطان بن عبد العزيز، لا تزال تصلح اليوم في عهد ولي ولي العهد وزير الدفاع الحالي، محمد بن سلمان، فعقدة السعي إلى التفوق على الجيران والتباهي الفارغ من القوة تلازم القيادة السعودية باختلاف وجوهها، وربما تكمن المشكلة في طريقة التفكير والعقد النفسية التاريخية التي ترفض الاعتراف بالواقع وتصرّ على رفضها حقائق الأمور من حولها.
خلال جلسة استماع للجنة القوات المسلحة في مجلس الشيوخ الأميركي مع قادة أجهزة الاستخبارات في البلاد، سألت اللجنة مدير الاستخبارات آنذاك الجنرال جيمس كلابر، حول أن السعودية والإمارات تطرحان خيار إرسال قواتهما البرية إلى سوريا لقتال تنظيم «داعش».
وجاء السؤال خلال الجلسة التي عقدت في 9 شباط 2016، بصورة واضحة: «ما هو تقييمك لأداء قوات كل منهما؟»، ليجيب كلابر: «من الأداء الذي رأيناه لقوات كلا البلدين في اليمن حتى الآن، لا أعتقد أن بالإمكان توقع أكثر مما رأيناه من هذه القوات… مع أفضلية بسيطة للقوات الخاصة الإماراتية على السعودية، ولا سيما أن قدرات الأخيرة محدودة».