الصباح اليمني_مساحة حرة|
يُقال إن فهمًا دقيقًا لظاهرة ما يفضي بالضرورة إلى السيطرة عليها، وعليه إن فهمًا نقديًا تفكيكيًا للحرب وهي الظاهرة البشرية اللصيقة بالإنسان منذُ ظهوره في نسقه الاجتماعي؛ وكذا لطريقة تفكير المتحاربين في إدارة الحرب سيفضي لزامًا إلى حلها ومعالجة أسبابها.
إن فهم ” كيف تعمل الحرب ” أمرٌ قد يصعب كثيرًا لكنه لا يتعذر قط، ومَكْمَن الصعوبة في تشعب أبعادها ؛ فللحرب كجزء من تاريخ الفعل البشري والتجربة أبعاد نفسية جمعية وفردية وكذا ثقافية وتاريخية واقتصادية ودونما شك سياسية، والحرب في شلكها النهائي هي نتاج تضارب الرؤى حول هذه الأبعاد.
وعليه فالحرب هي انعكاس لحالة من اللاانسجام بين مكونين تجاه بُعْدٍ يُشكل حضوره النفعي مصلحة لطرف من هذه الأطراف وهذه الحالة الانشطارية في الرؤى إن جاز التعبير تُفتعل عادة؛ وعليه أيضًا تكون آلية التقسيم والتجزئة هي ميكانيزم الخلق والحضور الدائم للحروب وهي الآلية التي تتبعها الأطراف المستفيدة من حرب ما في سبيل إضرام جذوتها وديمومتها.
ولأن الحرب نمط من الحرك السياسي وإن بوسائل أخرى كما يرى المُنظر العسكري “كلاوزفيتر” في كتابه “عن الحرب ” وبما يعنى بالضرورة أنها عملية إدارية – وهذا ما يهمنا -ووسيلة ضغط سياسي فهي بالضرورةِ تُخلقُ – أي أنها صناعة – وبسلاحها الأول والأسبق إلى المعركة (التقسيم) وتستمر بهذا السلاح لأنَّ في استمرارها وتنقلاتها ونتائجها بالمحصلة مكاسب سياسية لأطراف غيرُ منخرطة في الحرب عادة.
وفي نظرتنا الأولية للحرب من حيث توقيتها الزمني قد نُزمّن الحرب كالعادة بزمن انطلاق أول قذيفة – ساعة الصفر في النظرية الحربية – وذاك زمن إطلاق القذيفة لا زمن الحرب، أما زمن الأخيرة فيبتدئ من ذي قبل بوسيط تقسيم صف المُحَارَب عبر سلسلة من الحروب النفسية التي تستهدف تماسكه في البنيتين الاجتماعية والثقافية بالدرجة الأساسية لأنه دون هكذا تقسيم لا يمكن أن تُخلق مشكلة، وتستمر الحرب أو تتطور في شكلها ونتائجها وبالتالي تتطور في مكاسبها.
إن لحظات السلم هي لحظات الحرب الحقيقية ففي هذه اللحظات تكون هندسة الحرب وإدارتها من قبل الأطراف المُحَارِبة، وبما يشمل تقسيم المجتمع وحشده في صفوف متواجهة استعداد لإعلان حروب البارود والدماء.
ومنذ حروب الإنسان الأول في حملات ” جنكيز خان” مرورا بحروب ” البيلوبونيز” وصولاً إلى هذه الحرب كان السبيل الأول لخلق الحروب واستثمارها ومدِّ فتراتها الزمنية يمكن في خلق الانقسامات بمختلف أنماطها في صفوف الطرف الذي تم إعلان الحرب ضده لأن انقسامات كهذه ستكون سببا ليس فقط في إطالة مدى الحرب بل أيضا في إضرامها مرة أخرى متى همدت وكذا تضمين الحرب الكلية حروبًا جزئية تضاعف من الخسائر والانهزامات وتخلق مجتمعات متفككة هزيلة.
إن أسوأ نتائج الحرب لا يكمن فقط في هدم المؤسسات وتدفق جداول الدماء بقدر سوء تفكك النسيج الاجتماعي الواحد فمتى حدث ذلك صارت المجتمعات أكثر قابلية لخوض حروب بينية مستقبلية فضلاً عن صعوبة احتكام مجتمعات ما بعد الحرب المفككة لدولة واحدة مستقرة تلتفت لنشاطات التنمية والإعمار ففاتورة الحروب لا تدفع في وقت الحرب فقط بل تأتي لاحقا كما يقول ” بنجامين فرانكلين “.
وفي تجربتنا الأخيرة مع الحرب مارست وسائل الدعاية للأطراف الخارجية المحاربة حربا نفسية وبما يخلق مشكلة – أي انقساما – ضد النسيج الاجتماعي بقصد جعله مخلخلاً وقابلاً للتجزئة وضعيفًا في مواجهة الحرب ببعدها المادي ثم كانت جميع الأطراف المتصارعة داخليًا – نتاج الحرب النفسية السابقة – تمارس تقسيما متعمدًا لمكونات المجتمع – تجزيء المجزأ- في سبيل حشده ضد بعضه وبما يضمن لها الاستمرارية في الحرب وهي حرب استمرت لهذا السبب ومعها صار المجتمع فاقدًا لتماسكه وتآلف مكوناته ، وحتما ، مجتمع كهذا سيفتقد مستقبلاً لتماسكه وبما يجعله قابلاً لحروب قادمة وسيفتقد لدولة تنموية وعادلة فضلاً عن افتقاده للسلم الداخلي وإن صمت البارود مرحليًا.
وفي المجمل والمحصلة مجتمع اليوم هو مجتمع منقسم بكل أنماط الانقسام ويعبأ طائفيًا عبر خطابات دينية تحشد للحرب وهو مجتمع ما لم تُعالج صدوعه الداخلية فلن تتوقف الحرب وسوف يستمر في حروبه واقتتاله الداخلي وما أحوجه إلى رأب الصدع ولدولة عادلة ويقظة لمشاريع الهدم والغزو، ولكم هي حاجتنا لفهم الحرب وكيف يفكر المتحاربون لنعالج شيئا مما أفسده هؤلاء.
إن حلاً لهذه الحرب لا يمكن أن يكون دون فهم كيف يفكر المتحاربون وكيف يديرون ويوظفون سلاح التقسيم في سبيل إطالة أمد الحرب وحشد مكاسب سياسية شخصية لها آثار مدمرة على المجتمع ونسيجه الاجتماعي.
خليك معنا