«أريد طفلاً باسماً لا قطعة في الآلة الحربية» كتب درويش ذات يوم رمادي، وصدحت بها ماجدة الرومي، وللأصوات سحر رهيب بوسعه أن يجعل أذكى السامعين وأحصفهم ساذجاً يفغر فاه دهشةً وانبهاراً أمام نجمه المحبب، فلا يدقق في الرسائل المفخخة المخبوءة في النص المُغنَّى، ولا في الحبائل المواربة، حلف الحبال الصوتية الرخيمة الصادحة.
«الزنابق البيضاء» حوارية شعرية مع «جندي ما» قادم من «جبهة ما»، حمَّلها محمود درويش فلسفته للتطبيع بأسلوب بين المباشرة، والترميز المغلَّف بتراجيديا إنسانية مخاتلة، يعتقد معها السامع/القارئ، بصوابية المنطق المناهض للحرب بالعموم كمفهوم مجرد؛ غير أنه إذا أمعن في مضمونها دون انخطاف بإيقاعها الآسر المتباكي، سيكتشف أن «الجندي» الآخر في الحوارية ليس إلا «درويش» ذاته و«فتح أوسلو وياسر عرفات»، وأما «الحرب» المذمومة فهي حرب تحرير فلسطين المغتصبة.
قبل أن تدلف «حركة فتح» قبو «أوسلو 1993»، كان «درويش» يستعذب الحرب ويمتدحها ويمجدها ويحث عليها، بوصفها معادلاً موضوعياً لـ«حاجة القائد أبو عمار» الذي كان الشاعر بمثابة طفل مدلل له.
ثم كانت «أوسلو» وكان «التطبيع» وتخلت «حركة فتح» عن «مدفعية الهوزر»، وثابت التحرير ومبدأ كل التراب لا بعض التراب، وباتت الحركة شرطة درك ملحقة بـ«الشاباك والشين بيت» تتشمم أضلاع الفلسطينيين الأحرار وتلاحقهم وتحرر تقارير مفصلة عنهم لدولة الكيان الصهيوني. في حين بات «القائد أبو عمار» أشبه بتمثال نحاسي لمحارب قديم مهندم يقف على مدخل متحف «رام الله»، ليتحرش بأهداب السائحات الغربيات، عارياً من كل يافطات ماضيه النضالي، باستثناء بزته العسكرية الشهيرة.
عند ذلك ـ فقط ـ باتت الحرب مستهجنة وذميمة في فلسفة «درويش» لأنها باتت حرباً ضد «حاجة القائد العرَّاب». وحينها ـ فقط ـ سلكت قصائده سبيلها بلا موانع إلى شفاه «الكتائبية الجعجية»، ماجدة الرومي، المولعة بـ«النقانق البيضاء».
لا غرابة أن يدير درويش ظهره لـ«حاصر حصارك»، ليكتب مقالاً في إطراء «حصار الصهاينة لغزة المقاومة» التي يرمز لها في مقطوعة نثرية له بـ«يثرب» فهذه الأخيرة لا «تل أبيب» أضحت صندوقاً للشرور في فلسفته الابتذالية التطبيعية.
وبالمثل فإنه لا غرابة أن تدير ماجدة الرومي ظهرها لـ«الطفل الباسم» لتشحِّم «منشار الدب الداشر» وجنازير وتروس آلته الحربية العابرة فوق أضلاع أطفال اليمن؛ وتمرهم مفاصل الجلاد بأغانٍ سجعت بها ـ ذات يوم ـ حناجر الضحايا خلف من كانت «أيقونة عذراء» قبل أن تغدو مسخ محظية!
هل كنا نحب هؤلاء في الماضي بالفعل؟ أجل لكننا أفقنا إفاقة المدمن بعد عقود من الحجر الصحي الثوري وتلك خطوة فارقة على درب التحرير الذي أوصدته رومانسيات أقنان وقينات البلاط باسم الثورة، أكثر مما فعلت حواجز وجدران الفصل العنصري الصهيونية.