من ضمن المعضلات الكثيرة (ذات المنتج الجنوبي) التي تواجه مسيرة الثورة الجنوبية، معضلة الاغتراب ما بين مفردات وواقع الخطاب.
ففي الوقت الذي بات فيه الجنوب في قبضة أبنائه، أصبح للجنوب بدلاً عن الخطاب الواحد خطابات عدة، كلها تدعو إلى هدف واحد بمفردات مضى معها كل خطاب بأصحابه إلى زاوية ضيقة، فأصبحت الساحة بمثابة زوايا مغلقة يصعب على أي جهد اختراقها، والوصول إلى نقاط ارتكازها لوضع حلول توحد مفردات الخطاب وتعيد للثورة سيرتها الأولى.
عندما يشذ الخطاب ويذهب بعيداً عن الواقع مهما كانت مفرداته منغمسة في مشاعر الوطنية، ومهما كان وزن من يقف خلف ذلك الخطاب ومهما كانت عدالة القضية التي يمثلها ذلك الخطاب، فإن النتائج في كل الحالات ستأتي سلبية لا تفيد تلك القضية ولا تخدم الأطراف، بل أن تلك النتائج قد تضر بتلك القضية وتلك الأطراف معاً.
عُرّفت السياسة بأنها فن الممكن وهي دعوة إلى الواقعية، والواقع اليوم في الجنوب يؤكد حقيقة واحدة، أن هذا الجنوب يعيش كابوس صراع لا علاقة له بالشمال، وقوة السياسية والقبلية التي مارست عليه سلوك وثقافة الاحتلال منذ 7 يوليو 1994م، ولكنه صراع بين حملة أهداف الثورة فيما بينهم.
وقد نادينا منذ أول ظهور لبوادر هذا الخلاف الى ضرورة التلاقي الجنوبي على أساس القواسم المشتركة، وطالبنا بضرورة ترك الشطط والابتعاد عن الخطاب التحريضي في إطار التباينات والإختلافات الجنوبية، وحذرنا من خطورة التخوين والتخوين المضاد واستغلال الظروف المادية والمعيشية الصعبة التي يعانيها أبناء الجنوب، جراء سياسة التجويع التي مارسها نظام علي عبدالله صالح ضدهم على مدى سنوات اغتصاب الجنوب، وجراء تبعات الحرب التي قادها الإنقلابيون الحوثة ضد الوطن ودولته ومؤسساته في الشمال والجنوب، ونبهنا بأن استغلال تلك الحالة وحشد الناس في الساحات وتحريضهم ضد بعضهم لخدمة أحلام عششت في رؤوس البعض لتكرار مأساة اغتصاب الجنوب، هي الخطر الداهم الذي يهدد الجنوب وقضيته وتضحياته.
واليوم وبعد مشوار التغافل عن كثير من الدعوات العقلانية، وصلنا جميعاً إلى حقيقة وواقعية ما نبهنا إليه وما حذرنا منه، فعلى مستوى وحدة الصف بات الجنوب ممزقاً شعوباً وقبائلاً، وباتت المناطقية والقبلية بوجهها القبيح السلبي هي الحاضرة؛ وعلى مستوى القضية فقد تراجعت القضية سنوات عدة عن المكانة التي أوصلها إليها الحراك الجنوبي السلمي، الذي مثل شرارة لثورات الربيع العربي قبل أن تخرج عن خطها، تلك المكانة التي تُوجت بالقرار الدولي رقم 2140 في فبراير 2014م .
لا شك أننا اليوم، وبسلوك البعض منا وبأمراض السلطة التي تتحكم بالكثير من العقول الجنوبية، بتنا على مشارف قراءة منطوق الحكم النهائي بإعدام قضيتنا وحقنا في استعادة دولتنا وتثبيت أركانها، الأمر الذي يضعنا جميعاً أمام مسؤولياتنا التاريخية للدعوة الى ثورة تعيد الأمور إلى نصابها، وتلغي كل الاستحداثات الثورية المصطنعة، والتي جاءت على خلفية حسابات إقليمية استغلت ثقافة الصراع المناطقي الجنوبي، وغذته وبَنَت عليه أركان أدواتها على الساحة الجنوبية، ولا ضير لتحقيق ذلك من العودة خطوات إلى الخلف، فالعودة إلى الخلف خطوات لتصحيح الأخطاء وإعادة توضيح معالم الطريق، خيراً من المضي قدماً إلى المجهول.