الصباح اليمني_مساحة حرة|
لا يمتلك الرئيس الأميركي دونالد ترامب رؤية استراتيجية أو ينطلق من فلسفة؛ بل إنه من الصعب العثور على منطق داخلي متماسك في تصريحاته ومواقفه، ومع ذلك ظهر ما يعرف بالترامبية أو Trumpism، وستُدهش عندما تعثر على محرك البحث جوجال على مئات آلاف من محاولة وصف الترامبية وتحليلها ونقدها أو تأييدها، والترويج لها، والحقيقية أن أغلب الكتب والأبحاث والمواد الصحافية تهاجم الترامبية وتنتقد التصريحات المتناقضة واللغة الخشنة والهجومية والتهكمية لترامب.
وخلقت الترامبية حالة من الاستقطاب الشديد بين أنصارها، وبين خصومها، لذلك من الصعب العثور على تقدير موضوعي أو متوازن بشأن حقيقية الترامبية ومستقبلها، خصوصاً وأن هناك من يرى أن نتائج سياسات ترامب لم تتبلور، وبالتالي من غير المنطقي الحكم عليها، لكن في المقابل هناك من يعتقد أن ترامب لن يكمل فترة رئاسته الأولى. وبغض النظر عن هذه الآراء والتوقعات فإن أي محاولة لفهم الترامبية بشكل أقرب إلى الموضوعية تتطلب الاستعانة بخمس مقاربات أساسية هي:-
المقاربة الأولى والأكثر رواجاً ترى أن الترامبية هي أحد تجليات الشعبوية المستندة إلى القومية الضيقة، والنزعة الاستعلائية، والتقليل من شأن الأفكار والمؤسسات، وتعظيم دور القائد أو الزعيم الملهم .. القادر على التحدي وخوض صراعات ومعارك داخلية وخارجية لا مفر منها حتى يمكن مواجهة المؤامرات الخارجية والداخلية التي تهدد الوطن، وتعرقل عملية تغيير أميركا إلى الأفضل. والحقيقية أن هناك مداً شعبوياً في كل أنحاء العالم كرد فعل على العولمة والآثار السلبية لاقتصاد السوق الذي لا يراعي العدالة الاجتماعية، ويبدو أن هذا التيار وجد في ترامب قائداً له أو نموذجاً يحتذى رغم أن ترامب نفسه قد يهاجم ممثلي هذا التيار في أوروبا وأميركا اللاتينية، ربما لأنه من الصعب العثور على حليف أو صديق دائم لترامب فالرجل متقلب، وأقرب إلى عاصفة من الصعب توقع اتجاهها أو متى تهدأ!!
المقاربة الثانية تركز على أن الترامبية هي محاولة غير مخططة لوقف تدهور القوة الأميركية وتغيير مسار السياسات الأميركية، ربما نحو الأفضل أو الأسوأ، وذلك بحسب منظور من يتابع ويقيم تحولات ترامب السريعة والمدهشة والغريبة، فقد أحدث الرجل تغيرات كبيرة ومهمة، شكلت ومن دون شك صدمة وانقطاعاً لما استقر عليه الحكم في أقوى دولة في العالم، لذلك فإن الترامبية عند البعض تعني صخب التغير .. والتحول .. واللا استقرار، والمعارك المتواصلة مع موظفي البيت الأبيض، ومستشاري ترامب، والصحافة الأميركية ورؤساء دول حليفة للولايات المتحدة في أوروبا وأميركا، ثم مع الصين.. وتبرر الترامبوية كل هذه المعارك استناداً إلى مقولة «أن القوة الأميركية تتراجع»، وضرورة وقف هذا التدهور من خلال إعادة توزيع أعباء والتزامات أميركا، فليس من العدل أو الإنصاف أن تدافع أميركا عن الأصدقاء والحلفاء من دون أن يساهموا في الدفاع عن أنفسهم .. وحان الوقت لكي يسدد الجميع كل الفواتير المتأخرة .. هذا المنطق التجاري البسيط والصادم لا يروق لرجال المؤسسات الأميركية بعض ومستشاري الرئيس نفسه، لكنه يجذب الناخبين البسطاء الذين انتخبوا ترامب، وما يزالون متعلقين بالآمال والأوهام عن المؤامرة الكونية ضد أميركا، وعن المكاسب المتوقعة، والمستقبل المزدهر لأميركا الذي تعدهم بتحقيقه الترامبوية. لكن الحقيقة إن الترامبية تخلط الأوراق وتتجاهل الحقائق على الأرض لأن العالم لا يعيش حالة حرب أو التهديد بالحرب منذ انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991، وقد عانى من حالة هيمنة القطب الأميركي الواحد، وبالتالي فإن أميركا لم تدافع عن أحد خلال ما يزيد على ربع قرن.. وإنما كانت تدافع عن مصالحها وقيمها عبر العالم، وقد ساند الأصدقاء والحلفاء أميركا في حربها على الإرهاب، وساهموا مالياً وأمنياً في هذه الحرب .
من جانب آخر، فإن مقولة «القوة الأميركية تتراجع « صحيحة، لكن هذا التراجع ليس بسبب الإنفاق العسكري فقط، وإنما نتيجة تراجع الناتج القومي الإجمالي ونمو الاقتصاد الصيني وظهور أوروبا الموحدة والاحتمالات المتزايدة لبناء نظام عالمي واقتصادي جديد متعدد الأقطاب، ربما لا يعتمد في المستقبل المنظور على الدولار الأميركي، فمنذ 2014 خسرت الولايات المتحدة وضعها باعتبارها أكبر اقتصاد في العالم، حيث تجاوزت الصين الولايات المتحدة من حيث الناتج المحلي الإجمالي في الدولار من حيث القدرة الشرائية، فقد زادت حصة الصين من الناتج العالمي إلى 16.48 بالمئة مقابل 16.28 بالمئة للاقتصاد الأميركي. ومع ذلك ما تزال أميركا متفوقة اقتصادياً على الصين إذا أخذنا معايير أخرى، لكن هذا التفوق مهدد بقوة .. حيث يتوقع أن يحتل الاقتصاد الصيني المركز الأول عالمياً عام 2022، كما إن الصين هي أكبر مصدر لأميركا، وأكبر دائن لها. في هذا السياق شن ترامب حرباً تجارية ضد الصين والاتحاد الأوروبي وكندا والمكسيك وتركيا في محاولة للحفاظ على تفوق الولايات المتحدة والحفاظ على مكانتها، لكن هذه الحروب والتي تنقلب على عولمة الاقتصاد – رسالة أميركا في العقود القليلة الماضية – لن تنجح في إيقاف تقدم الصين أو ضمان استمرار الاقتصاد الأميركي كأكبر اقتصاد في العالم، لأن هذه الحروب قد تعرقل نمو الاقتصاد الأميركي نفسه، كما ستضر بالشركات الأميركية العملاقة التي تعمل في الصين وتايوان.
المقاربة الثالثة تنظر إلى الترامبية من منظور نفسي – اجتماعي، ليس من زاوية اتهام ترامب بعدم التوازن النفسي أو إخضاع تصريحاته ومواقفه لتحليل فرويدي على نحو ما قام به عدد من الباحثين، ولكن هذه المقاربة ترى أن هناك قطاعات من الأميركيين البيض يشعرون بالإحباط والتهميش وبالتالي فقد كانوا في حاجة نفسيه واجتماعية لمقولات الترامبية وحضور ترامب الدائم إعلامياً وسياسياً ومعاركه المستمرة والتي لا تهدأ، في هذا الإطار ولدت الترامبية. كمزيج محير من العداء للمؤسسية، ومن النزعة الاقتصادية الشعبوية، والقومية الرجعية، والعسكرة القوية .. هذا المزيج يلخصه شعار ترامب المعروف «اجعل أميركا عظيمة مرة أخرى « ولا يخلو مزيج الترامبوية الغريب والمحير من الميل للجنس الأبيض والعداء للمهاجرين والأقليات، فضلا عن الرهان على القدرات الاستثنائية لترامب كرجل أبيض ناجح في عمله الخاص وفي تحدي خصومه والفوز في أغلب المعارك التي خاضها، وهناك ما يشبه الإجماع بين مثقفين وصحافيين من اليسار واليمين الأميركي على أن ترامب لا يستمع لمستشاريه، فهو باعترافه – في أكثر من مناسبة – لا يتشاور مع أحد، ويثق في نفسه وقدراته إلى حد الغرور، ويرى أن الرؤساء الذين سبقوه كانوا حمقى أو ضعفاء، إنه باختصار يفكر ويعمل كرجل أعمال واعتماداً على حسه أو غرائزه.
> المقاربة الرابعة الترامبية كأيديولوجية متنمرة، تهاجم الجميع الأصدقاء .. والأعداء، وتسعى إلى استمرار ترامب في الحكم بكل الوسائل، بما في ذلك الكذب والخداع، وتجاهل هجوم الإعلام الأميركي وتهكم مقدمي البرامج .. وتركز الترامبية على دغدغة مشاعر الناخبين المؤيدين لترامب وأسلوبه غير المألوف في التعاطي مع ملفات السياسة الداخلية والخارجية، فالرجل له أسلوب مميز وجاذب لقطاعات واسعة من البسطاء المهمشين، والإنجيليين والذين يشكلون جيش الترامبوية القوي في أي انتخابات أو استطلاعات رأي عام، والحقيقة أن ترامب يجيد التعامل مع جيشه الانتخابي، فهو رغم كبر سنه يجيد استخدام وسائل التواصل الاجتماعي كما إن له مؤيدين في الإعلام التقليدي، ونجح ترامب في تحويل تويتر إلى أداة سريعة وفورية للسياسة والحكم، يستطيع من خلالها مخاطبة الرأي العام والتأثير فيه، ويرى اللغويون أن ترامب يتحدث بلغه غليظة وغير متسلسلة، تعتمد على المبالغات والتعميم والتوسع في استخدام أفعال التفضيل مثل أعظم وأجمل وأفضل، وقد تفوق ترامب على بوش الابن في سوء استخدام الألفاظ وسوء النطق وسوء الفهم.
أعتقد أن الترامبية تظل أيديولوجيا، بمعنى الوعي الزائف بالواقع والترويج لأحلام وأوهام قومومية قد تتناقض مع التاريخ الأميركي وقيم الآباء المؤسسين للولايات المتحدة. والمفارقة أن ترامب لم يهتم بالأفكار أو يلتزم بتيار سياسي أو فكري محدد، فالرجل غير انتماءه الحزبي خمس مرات منذ عام 1987 وحتى ترشحه للرئاسة !! من هنا يصدق القول على أن الترامبية أيديولوجية مراوغة فهي سطحية وصلبه ومتقلبة، وبراجماتيه، ومرتبطة بشخصية ترامب النرجسي ورجل الأعمال الناجح والمثير للجدل والدهشة والاستغراب.
> المقاربة الخامسة والمهمة، والتي غالباً ما يتم تجاهلها في أغلب ما يكتب عن ترامب، هي التوازن بين جموح الترامبيه ورسوخ وعقلانية مؤسسات الدولة، ويستند هذا التوازن إلى الدستور، والقانون والخبرات التاريخية .. وكل ذلك ينظم تقاسم السلطات بين الرئيس وباقي مؤسسات الدولة، ومن الصعب أن ينفرد الرئيس الأميركي مهما كانت شخصيته أو شعبيته باتخاذ القرار، أضف إلى ذلك قوة الصحافة والإعلام وتأثير الرأي العام، وبالتالي مهما بدا اندفاع أو تهور ترامب في بعض تصريحاته فإن آليات صنع وتنفيذ القرار عبر المؤسسات المختلفة تعقلن تلك التصريحات أو تخفف من آثارها حفاظا على المصالح الأميركية الثابتة. ولاشك أن فوز الديموقراطيين بأغلبية الكونغرس يكرس انقسام أميركا حول الترامبية وسيضع مزيداً من القيود على ترامب والجمهوريين في قيادة أميركا حتى الانتخابات الرئاسية المقبلة.
محمد الشومان – كاتب مصري
خليك معنا