صادفته للمرة الأولی في أحد أروقة المستشفی، بينما كنت أرافق صديقتي بعد أن أجرت عملية استئصال المرارة. فتی في السادسة عشرة، أصغر بسنة أو أكبر بسنة. المشاهدة الأولی كانت صادمة ومفزعة ومؤلمة. زالت الصدمة وبقي الألم والسخط في كل لقاء لاحق، حتی غادرت وصديقتي المستشفی، وبقى الفتی في مخيلتي شاهداً علی فداحة ما يجري، وما ستخلفه الحرب. أسبوع كامل تعرفت خلاله علی عبد الجبار. يدان مبتورتان وعين مفقوءة ووجه مرقع إثر عدة عمليات.
يحكي لي كبير الممرضين أن عبد الجبار نُقل من منطقة نهم، حيث المواجهات حامية الوطيس بلا حسم من أكثر من عام ونصف العام، بعد قصف الموقع الذي كان يتمركز فيه. وصل ورأسه كبطيخة سقطت بعنف علی الأرض، أما ذراعاه فلم يبق منهما إلا ثلث واحد ونصف الآخر. ظل يتنفس بواسطة أنبوب من الرقبة، وفي حالة حرجة جداً في العناية المركزة شهراً وعشرة أيام لا يُعرف عنه شيء: من هو؟ من أي منطقة؟ أهله؟ اسمه؟ إلی أن وصلوا لأهله الذين كانوا يعتقدون أنه في عداد القتلی أو الشهداء كما يحرص كل من فقد أحداً في الحرب علی تسمية فقيده.
صوته مبحوح إلی درجة أنك تحتاج لاستجماع كل تركيزك لتفهم ما يقول. هذا أيضاً من آثار الإصابة. فجأة، فُتح باب الغرفة التي نحن فيها، واقترب من مريضتي التي أرافقها والغرفة مكتظة بالزائرات. اقترب وظل ينظر إليها طويلاً. كلنا كنا خائفات متوجسات من أي تصرف قد يقدم عليه. اقتربت منه: «إبني عبد الجبار خلي خالة تنام لأنها تاعبة وعملت عملية وتتألم». حدّق في جميع الحاضرات وغادر الغرفة وجميعهن في حالة غصة.
وما هي إلا ساعة وباب غرفتنا يُطرق بطريقة أشبه بالضرب علی الباب بعصا. فتحت الباب وإذ هو بذراعيه المبتورتين وقد حبس طرف ذراعه في طرف الـ«تيشرت» الذي يرتديه مكوناً جيباً وضع فيه بسكويتاً وحليباً. قال: هذا لخالتي المريضة. إعتدنا بعد ذلك علی طرقاته لباب غرفتنا، والحليب والبسكويت عند كل غروب.
لكل طفل في جبهات القتال حكاية، تتلخص في الهروب من الرمضاء للنار
وذات يوم، سرد لنا فصلاً من فصول حياته. يقول بصوته المبحوح: غادرت منزلنا في مدينة ذمار قبل عام ونصف العام إثر شجار نشب في بيتنا. طردني بعده والدي لأجد نفسي في الشارع بلا مأوی ولا عمل. تنقلت هنا وهناك إلی أن التقيت بشباب أقنعوني بالالتحاق بالجبهة للدفاع عن وطننا وعرضنا. قالوا لي سيُضم اسمي للجيش وسأحصل علی راتب شهري وبعد الحرب سأمنح رقماً عسكرياً… سيقتنع أبي أنني رجل ويفخر بي. ستكون لي رتبة عسكرية وستثبت نجمة علی كتفي. يا له من عرض يؤمن مستقبلي! ذهبت معهم ثم التحقت بمعسكرات تدريب وتمكنت من استخدام الأسلحة، حاربت في جبهة صرواح لأشهر، ومنذ ما يقارب الأربعة أشهر وأنا في جبهة نهم، حيث أصبت بعد قصف الطيران لكتيبتنا ولم أفق إلا بعد أسابيع في المستشفی.
نعم أفاق بذراعين مبتورتين وعين مفقوءة.
يحتاج عبد الجبار إلى المساعدة في أبسط تصرف يحتاج القيام به، ويتولی شقيقه الذي يرافقه مساعدته في كل شيء… كل شيء. اتضح لي أن فقد الذراعين أشد من فقد القدمين. ما الذي يمكن أن يقوم به وهو بهذه الحال؟ ستمضي به الأيام ولن ينال من أحلامه ما تمنی.
الانخراط في صفوف المحاربين أصبح مهنة من لا مهنة له، إن لم نقل إنه المهنة الوحيدة المتاحة للشباب حالياً. وفي الحقيقة، يتم اختيارهم بعناية، هذا يبحث عن عمل في المدينة، وهذا فار من ثأر أو مشاكل قبلية، وذاك طرده والده، وغيره عاطل عن العمل وشبه متواجد بصفة يومية في أحد مقاهي الإنترنت وهي بالمناسبة من الأماكن التي يتم استقطاب الشباب فيها بعد جمع المعلومات عنهم: البعيدون عن أهلهم، العاطلون عن العمل، الباحثون عن أمل، من لديهم مشاكل أسرية. ولا تفكروا في البنية الجسدية والمهارة والخبرة، هذه ليست شروطاً أساسية.
عشرات الآلاف من الأطفال في العرف الدولي، الشباب في العرف المحلي، لا تتجاوز أعمارهم السادسة عشرة بل أقل، يقاتلون في جبهات القتال، الآلاف منهم يُقتلون، والآلاف منهم يصبحون كعبد الجبار، رقماً في عداد المعاقين من ضحايا الحرب.
يسمونهم في المستشفيات جرحی الحرب، ولهم معاملة خاصة. هناك من يقول ليس كل الجرحی ينالون معاملة خاصة، كثيرون بلا رعاية صحية وهذه نقطة بحاجة للتقصي.
يظل الشاهد أمامنا أن عشرات الآلاف من الأطفال يُستدرجون إلی أماكن ليست أماكنهم، إلى جبهات القتال بدلاً عن مقاعد الدراسة، وأسرة جرحی الحرب بدلاً عن أماكن الرياضة والترفيه.
ستنتهي الحرب وتعود الأمور إلی نصابها، وسينحسر غبارها لنجد أنفسنا أمام مشهد مروع من أرقام مفزعة لمن قتلوا، وصور تدمي القلوب لمن خلفتهم الحرب بإعاقات متفاوتة تظهر علی أجسادهم، وأخری غائرة في أعماق أرواحهم.
يدفع الجهل والفقر بالكثيرين إلی قلب الصراع ويكونون وقوده، ويجدون من يستدرجهم، بل ويقنعهم أنهم في المسار الصحيح.
لكل طفل في جبهات القتال حكاية، تتلخص في الهروب من الرمضاء للنار. ولكل جريح ومصاب حكاية تسطرها المعاناة أمس واليوم، ويمتد مشهدها ألماً ومعاناة إلی الغد.