لم يسبق أن حظي القات بأهمية جدلية واسعة كما هو عليه الآن. مَن كان يظن بأن زمناً سيأتي يصبح فيه للقات عيد سنوي! وأن نخبة من مثقفي اليمن هم من سيؤسسون هذا العيد ويتبنون الاحتفال به؟ حتى أنهم أطلقوا على هذه المناسبة إسماً أنيقاً: «عيد الغصن».
في السنة الرابعة من دراستي في الجامعة، تفاجأت ذات يوم بأن أستاذ مقرر المناهج وطرق التدريس يعتزم تخصيص تلك المحاضرة لنقاش جدلي بشأن القات. كان الدكتور صادق أحد المبتعثين للدراسة في أمريكا وقد عاد لتوه ممتلئاً بالحماس والصرامة العملية التي لا ترحم. وفي ذلك اليوم، بدا ممتلئاً بالنقمة على القات، وساخطاً على الطلاب الذين لا يحضرون محاضراته، ومنهم أنا بالطبع. كانت أول محاضرة أدخلها له، برغم انتصاف الفصل الدراسي، لأن محاضراته كانت من ناحية، تتزامن مع دوام العمل الذي كنت مضطراً للالتزام به لكي أعيش وأدرس. ومن ناحية أخرى، كنت أسمع من زملائي المقربين عن تزمته وحكمه بالرسوب على أي طالب يتغيب ثلاث محاضرات، حتى إذا كانت ورقة امتحانه خالية من أية أخطاء.
حين بدأ الدكتور صادق بالحديث عن تشكيل فريقَي النقاش حول القات، ظننا أنه سيختار جميع المشاركين، لكنه اكتفى باختيار رئيسَي الفريقين وتَرَك لكل منهما حرية اختيار فريقه؛ الطالبة ذات العلامات الأعلى على مستوى الدفعة، ترأست فريق الهجوم على القات وأضراره، والطالب صاحب المعدل الأعلى في التغيب عن المحاضرات، ترأس الفريق المدافع عن القات ومزاياه.
ولدت ونشأت في منطقة تزرع القات بكثافة، ومع ذلك، أعتبر مضغ القات مسألة شخصية. وحين أكتب عن القات في فورة هذا الجدل بشأنه، تستدعي ذاكرتي تلقائياً، علاقتي الخاصة به، ومشتركاتها مع بقية اليمنيين «الموالعة» وغير «الموالعة».
أتذكر العناء الذي كان يهدّني حين يكلفني أبي بري القات ورعايته وحراسته، وحين كنت أتمتع بمصروف جيد للمدرسة في مواسم القطاف. أول نص قصصي كتبته في الثانوية العامة بينما كنت حارساً حقل القات، وفي أول سنتين من دراستي في الجامعة، عملت في قطاف القات يومين في الأسبوع على الأقل، لكي أتمكن من مواصلة الدراسة. وحين كلفني الدكتور صادق بترؤس فريق المدافعين عن القات، لم أجد ما أقوله. كان عليّ التحدث عن مزايا القات باللغة الانجليزية وهذا يعني التفكير بذلك بنفس اللغة، وكم كان ذلك صعباً بالنسبة لشخص ليس متحمساً لزراعة القات ولا من «الموالعة» الشرهين لمضغه.
في ذلك اليوم، اختلطت في ذاكرتي نشوة قات الشتاء الضامئ والقصائد الغنائية لمحمد صالح حمدون، مع السموم التي كنت استنشقها أثناء رش المبيدات على الأشجار المنتظمة في خطوط مستقيمة. حينها لم يكن اثنان من أصدقاء الطفولة قد انتحرا بسمّ «برفكثيون» الذي كنا نسميه «مربّي الأغصان». غير أن المئات من أهالي القرى الذين كانوا يعتمدون في معيشتهم على زراعة القات، ومئات الباعة في أسواق المدينة والأسواق الريفية حديثة النشأة، خطروا في ذهني دفعة واحدة.
قلت: «إحدى مزايا القات أنه يوفر الآلاف من فرص العمل ذات الدخل الجيد لمن يزرعونه ويتاجرون به». ثم عبرت في ذهني عشرات الحقول في قريتنا، التي اضطر مالكوها لاقتلاع أشجار القات بسبب الجفاف، بعدما أوصلتهم فورة حماسهم لزراعته، إلى حفر بئر طرف كل حقل تقريباً. كنت أتعرق بغزارة بينما أجلس على ذلك الكرسي الخشبي ذي المسند الأمامي المخصص لليد اليمنى فقط، وفي ذهني يتعالى ضجيج الجالونات البلاستيكية في أيدي النساء اللواتي يذهبن باكراً لجلب الماء، ويعدن بعد الظهر. داخل نفس الرأس المتعرق، ظهر عشرات الشباب في الحارة التي سكنت فيها بالمدينة، وقد اصطفوا ليلاً بمحاذاة جدران المنازل، يمضغون القات حتى الفجر.
كان وما زال معلوم لدى الجميع أن الجفاف يغزو الأحواض الجوفية لبلد قليل السدود وبلا أنهار، وأن أولئك الشباب لا يجدون عملاً يذهبون إليه، ولم تأبه لأمرهم أية حكومة. لكن من قال إن حكومة تولت زمام السلطة في اليمن منذ القرن السادس عشر، سبق أن اكترثت لأمور أجيال توارثت اللجوء إلى شجرة القات، كملاذ من العوز والبطالة أو حتى من سوء الطالع والكوابيس التي تهاجمهم عندما يتوقفون عن مضغ القات. لذلك، ألا يبدو الجدل أكثر عقماً عندما يكون القات موضوعه؟
أياً كانت الأسباب التي أدت لتنامي الجدل بشأنه مؤخراً، تبرز الحرب الدائرة الآن، كسبب رئيسي لجعل القات ملاذاً للمثقلين بوطأتها. قبل الحرب كان الناس عندما يسمعون أن أحداً لا يمضغ القات أو أنه أقلع عنه، يقولون: «ذلك أفضل». وعندما يرون أحداً يمرح ويضحك مساءً، يتبادر إلى أذهانهم بأنه لم يمضغ القات في ذلك النهار. العبوس والشرود وفقدان الرغبة في الكلام، هي سمات مصاحبة لما بعد جلسة القات، لكن كما يعرف جميع اليمنيين، هذه السمات الكئيبة تسبقها ساعات من الانتشاء والكلام والتفكير المتعمق في المسائل الخاصة والعامة. لذلك تبدو هذه السمات أقرب إلى حالة من الإنهاك جراء فرط النشاط والحركة الذهنية أو البدنية، وأكثر من ذلك، نتيجة الغوص في الأعماق الشائكة وتفكيكها.
ثم جاءت الحرب بكل ثقلها غير القابل للاحتمال وتعقيداتها المستعصية على التفكيك. وإذا كان بعض «الخبراء» يربطون بين جلسات القات الطويلة وتنامي البطالة، فقد قضت الحرب على معظم فرص العمل ومصادر الدخل، وصولاً إلى الرواتب. لا أحد يسأل كيف يستطيع العاطلون عن العمل شراء القات برغم ارتفاع أسعاره؛ ذلك أن حالة من التعاطف تسود بين «الموالعة»، وهي أشبه برصيد يعود على المتعاطف بحكم العادة، حين يأتي يوم لا يتوفر فيه على ثمن القات. ولو أن الدكتور صادق كان يعرف شيئاً عن التعاطف الذي كان الأساتذة الهنود يتحلون به، لما دفع بطالب يجهد لكي يواصل تعليمه، إلى منصة الدفاع عن القات. فقط، لكي يعاقبه على تغيبه عن بعض المحاضرات. وأعتقد الآن بأن ذلك النقاش الجدلي الخالي من الهدف، هو نموذج للإشكالية المتعلقة بطرق مكافحة أضرار القات، ودرجات التحيز لمزاياه؛ بين من يستنكر تعاطيه باعتباره رمزاً للتخلف مقارنة بـ«الكيف» لدى المجتمعات الأخرى، وبين من يوغل في التعصب له نكاية بفجاجة المنتقد. ما رأيكم بكأس من عصير القات؟ أليست تسوية عادلة؟