ياسين التميمي:
ليس من المصادفة أن يتفجر حراكٌ شعبي واسعٌ في محافظة المهرة اليمنية، الحدودية مع سلطنة عمان، محركه الأساس شعور أبناء هذه المحافظة بأن محافظتهم تعيش في ظل وضع يشبه الاحتلال بمظاهره العسكرية والأمنية، وبالمصادرة شبه الكاملة للصلاحيات السيادية للدولة اليمنية وللاختصاصات الأصيلة للأجهزة التنفيذية المحلية.
تتقاطع على خلفية هذا الحراك أجنداتٌ عديدة، لبعضها علاقة بالتنازع على النفوذ في محافظة المهرة بين كل من سلطنة عمان من جهة، والسعودية والإمارات من جهة أخرى، مع الأخذ في الاعتبار المكانة التي أسستها عمان لنفسها بين سكان المهرة طيلة العقود الأربعين الماضية.
وللرياض أجندتها الخاصة التي ترتبط برغبتها في وضع اليد على هذه المحافظة؛ بغية إحياء مشروع قديم لإيجاد مرفأ نفطي تابع لها على بحر العرب، يحررها من المخاوف الأمنية التي تتكرر باستمرار نتيجة سياسات إيران في المنطقة وسيطرتها الأمنية على مضيق هرمز، وهو مشروع يشترط على ما يبدو تفكيك اليمن أو بقاءه ضعيفاً بالقدر الكافي.
استثمرت الرياض كثيراً في شراء الولاءات القبلية، وفي توطين المذهب الوهابي في المهرة، لكن النفوذ السعودي الذي نجح في مناطق أخرى في اليمن واجه نفوذاً عمانياً صلباً؛ أبقى السلفيين أشبه بخلايا نائمة، على حد وصف إعلامي عاش في المهرة لسنوات.
خلال السنتين الأوليين من الحرب، مثلت المهرة متنفساً لليمنيين الذين منحتهم سلطنة عمان تسهيلات للمرور عبر أراضيها، لبلوغ وجهات دولية متعددة، بعد أن ضاق بهم الحال وأغلقت دونهم المنافذ، وأهمها تلك التي تصلهم بالسعودية؛ البلد الذي يقود التحالف العسكري ويخوض حرباً في اليمن لإسناد حكومتها، أو هكذا يفترض.
وقد تحولت مسقط إلى محطة مهمة في المفاوضات التي تديرها الأمم المتحدة بين الأطراف اليمنية، بعد أن استطاعت مسقط أن تحتفظ بعلاقات خاصة بالحوثيين، ومن قبلهم بالرئيس المخلوع علي عبد الله صالح؛ الذي يوجد عدد كبير من أفراد عائلته في العاصمة العمانية حتى الآن.
لم يعد بإمكان اليمنيين أن يتنقلوا عبر منفذي “صرفيت” و”شحن” باليسر الذي تمتعوا به منذ بداية الحرب وحتى وضع القوات السعودية يدها على هذين المنفذين، وعلى ميناء نشطون البحري ومطار الغيضة الدولي.
جاءت القوات المسلحة السعودية في كانون الثاني/ يناير الماضي إلى المهرة؛ لإنجاح مهمة فشلت في تحقيقها الإمارات التي لم تنجح في تثبيت وجودها عبر تشكيلات أمنية حاولت تأسيسها في المحافظة وفشلت، وكان الدافع المعلن حينها هو وقف عمليات التهريب للأسلحة التي تتم عبر محافظة المهرة، مع إشارات بعضها مبطن وبعضها صريح إلى دور عماني في عمليات التهريب تلك.
قد لا تخلو إشارات كهذه من الصحة، ولكن الإجراء المناسب بشأن التهريب هو أن تقوم القوات الحكومية، وبدعم لوجستي من التحالف، بفرض الرقابة المشددة على الحدود لمنع التهريب، لا أن يُتخذ التهريبُ ذريعةً لخلق واقع جديد في المهرة؛ تستكمل معه مهمة الاستحواذ على الجغرافيا اليمنية، وتهميش الدور الأصيل للسلطة الشرعية والتخطيط لنفيها وإعادة هندستها ضمن مشاريع حلول سياسية من خارج المرجعيات المحترمة.
يتمسك حراك المهرة بمطلبه القاضي بضرورة فرض سيادة الدولة اليمنية على أراضيها، وهو مطلب لا يبدو متناقضاً مع مهمة التحالف، لكنه في المحصلة يقوض مخططات المملكة التي بالغت في التواجد العسكري في هذه المحافظة بما لا يتفق مع وضعها المستقر؛ قياساً بالمحافظات التي تشهد مواجهات مسلحة واسعة في شمال البلاد.
تبدو سلطنة عمان أكثر الأطراف الإقليمية قلقاً من النشاط الإماراتي والسعودي في كل من المهرة وسقطرى، لذا وضعت مسقط كل ثقلها خلف الحراك الشعبي في هاتين المحافظتين، وفي مساندة السلطة الشرعية إبان أزمة سقطرى التي أوصلت اليمن والامارات إلى الأمم المتحدة، في خطوة ألقت بالكثير من الظلال السوداء على مهمة التحالف وكشفت عن الدوافع الحقيقية لوجوده في اليمن.
بعد أكثر من ثلاث سنوات من الحرب التي يخوضها تحالفٌ بدأ عربياً وانتهى سعودياً وإماراتياً، تتضاءل الإنجازات الحاسمة، فيما يتواصل الزحف البطيء في الجغرافيا الملتهبة، ومعه تتقلص شيئاً فشيئاً سيطرةُ الحوثيين، وسط كلفة هائلة؛ أبرز مظاهرها تشظي معسكر الشرعية وتآكل خياراته وتداعي الدولة اليمنية، على نحو ما كشف عنه تقرير لفريق الخبراء التابع لمجلس الأمن تأسيساً على ما لحظه من إضعاف ممنهجٍ للسلطة الشرعية؛ مصدره سياسات التحالف وتدابيره على الأرض اليمنية.
أسكت التحالف معظم جبهات المواجهة مع مليشيا الحوثي، خصوصاً تلك التي وضع فيها الجيش الوطني صنعاء هدفاً نهائياً له، أو جعلها متقطعة وأشبه بحرب استنزاف لكلا الطرفين المتقاتلين، في وقت لم يتردد في تكديس أحدث الأسلحة في كل من المهرة وعدن ومعسكرات في أطراف مأرب تحولت إلى ثكنات معزولة وغامضة الأهداف.
إنه الإمعان الوقح في النيل من السيادة اليمنية، من قبل تحالف يدعي أنه جاء لدعم السلطة الشرعية وطرد الانقلابيين، وبناء شراكة متكافئة مع الدولة اليمنية التي لطالما تلقت طعنات دامية من هذا التحالف طيلة العقود الماضية من تاريخها.
خليك معنا