وحدها اللغة تستطيع أن تنفذ من أقطار القلب إلى سماوات الدهشة دون أن تجد شهابا رصدا , ووحده الشاعر/ أنور داعر استطاع أن يجد له صوتا شعريا مميزا من بين الأصوات الألفينية التي تتشابه كما تتشابه أجهزة الهاتف .
أيُّهَا المُتَعَثِّرُونَ خَلْفَ الأَنْبِيَاءْ
هَا أَنَا الآنَ
أَنْفُذُ مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ و الأَرْض
سُلْطَانِي الشِّعْرْ
صَارَ بإِمْكَانِي
أَنْ أَعْلَمَ الغَيْبَ
غَيْبْ
:
:
اللهُ عَلَّمَنِي
فَاللهُ عَلاَّمُ الغُيُوبْ
بهذه اللغة القادمة من مشكاة البهاء استطاع الشاعر /أنور داعر من خلال ديوانه (بلى ولكن) أن ينفذ إلى سماوات الإبداع ,ابتداءً من العتبة الأولى للديوان(عنوان الديوان) المرتكز على حرفين ثالثهما الشعر,قائلاً –أي الشاعر- أن بلى ولكن قادمان من حرفي التكوين الكاف والنون ولأنه يحسن المثول بين يدي الحق فقد كانت أحرف تكوينه التي تحاشت التطابق والمماثلة صورة لعجزه البشري ,فالإنسان مظهر لتجليات الحق وليس مصدرا للتجلي, على الرغم أن لكل واحدٍ منا كافه ونونه وأن طمس ذاته وحاول التخفي برموزه الصوفية , فما لم يدفن جيدا في أرض الخمول لا يتم نتاجه , ولو أراد غير ذلك لما ابتدأ ديوانه بهذه التسمية .
إن الصدمة التي حاول الشاعر أن يخلقها تجافي المألوف فمنذ العنوان وهو يحاول الاختلاف , وأقصد بالاختلاف هنا الاختلاف الإيجابي الذي يعني التميز , فمن لم يزد في الكون فهو زائد , والطرائق بعدد الخلائق.
إن الاختلاف الذي سعى إليه الشاعر اختلاف نوعي له دلالاته على المستوى الفني وله أبعاده الروحية ,فهو يكتب الشعر من روحه ولا يهتم كثيرا بمفازات اللغة والشكل غير أن كل وثبة في الديوان كألف قصيدة مما يقولون .
لهذا نستطيع القول : إن أنور داعر من خلال هذه المجموعة قد أجبر المتلقي أن يشاركه كتابة النص فهو يخلق الإشارة فقط وعلى القارئ أن يبحث عن المدلول وفقا للأرضية المعرفية التي ينطلق منها المتلقي , زاعما أن من لم تنفعه الإشارة لا تغنه العبارة , وللقارئ أن يقف معي على عنوان الديوان ,فبلى تذكرك منذ الوهلة الأولى بقوله تعالى (بلى قادرين على أن نسوي بنانه )وصاحبتها تقول لك)ولكن لا يشعرون ),وكأن الشاعر أراد أن يقول ضمنيا إنه قادر على المغايرة والتميز وخلق الأجد وإنه صوت لا صدى ومتن لا هامش , وإنه استطاع أن يكون صوتا منفردا بين أبناء جيله التي تجاورت أصواتهم حد التداخل دون أن ينتبه له ولتجربته أحد.
أيُّهَا العَابِرُونَ الغَيْمَ
نَحوَ السَّماء
لا تَترُكُونِي
مُثقلاً بالأرضِ
وَحْدِي
و ضَجِيج هَذي الكَائِنات
إن أنور داعر شاعر مؤمن بالقصيدة كافر بذاته عرف الطريق إلى الشعر ,فغاب في جبة قلبه, حرث قلبه بحب الناس فأنبت سنبلات خضر وأخر يابسات, نقش أحزان الناس في كتاب روحه ونسى اسمه لهذا جاء صوفيا يحمل خشبة صلبه على ظهره
كُنْتُ المُنَادَى
و السَّمَاءُ تَضِجُّ بِي
يا..
يا..
لا إسْمَ لِي يا سَيِّدِي
جَمْعَ المَلائِكَةِ الكِرَامِ
أنا الذي أنْبَأْتهُُم أسْمَاءَهُمْ
و نَسِيتُ إسْمِي
حِينَ خَرُّوا سَاجِدِين
إن ثقافة الشاعر القرآنية وحسن توظيفه لتلك الثقافة تجبرك أن لا تصعر خدك بين يديه وأن تخفض لها جناح الذل من الرحمة ,وتؤمن أن الشعر لم يعد غواية , وأن الغواية كل الغواية أن يضيق صدرك من هذا العالم الجميل.
رَبَّاهُ
مَا عَادَتْ هَوَاجِسُنَا
غِوَايَةْ …
الآنَ
نَفْعَلُ ما نَقُولْ
و إِنْ نَوَايَا__
شُعَرَاءُ
مَا عَادَتْ خُطَى
الغَاوِينَ
تَتْبَعُنَا
لِجَهلٍ؟
هَذِي قَوَافِينَا
غَدَتْ لِلتَّابِعِينَ لَنَا
هِدَايَةْ…
في كُلِّ وَادٍ
هَائِمُونْ
بِحَرْفِكَ “اللَّهُمَّ”
إِنَّا اليَوْمَ
هِمْنَا
عَنْ دِرَايَةْ…
اللهُ غَايَتُنَا
سَنَبْتَدِعُ الوِصَالَ
إِليهِ
كَيْفَ نَشَاء
حَتَّى
يَصير الحَرْفُ
آيَةْ…
لقد تميز أسلوب الشاعر في هذه المجموعة بالتصوف الفلسفي وإن اقترب في بعض الأحايين من شطحات الصوفية بقصد وبغير قصد ,غير أن ابتعاده واقترابه لا يخرجه عن قدسية الشعر , بقدر ما يجعله في مواجهة مع العقول المرهونة للظاهر التي تعادي كل شيء لا لشيء سوى أنها لم تستطع فهمه.
شَطْحَةُ الثُّلُثِ الأَخِير
مَاذَا لَوْ
اعْتَصَمَ النَّاسُ
فِي سَاحَةِ الحَشْرِ
يَوْمَ القِيَامَةِ
مُطَالِبِينَ اللهَ
بِحَياةٍ ثَالِثَةٍ
غَير
الدُّنْيَا و الآخِرَة
عَلَى
أنْ يَكُونَ لَهُم
الحَقّ فِيهَا
بِاْخْتِيَارِ أَنْبِيَائِهِمْ
ومُمَثِّلِيْهِمْ لَدَى السَّمَاءْ
و اسْتِفْتَاءٌ
عَلَى
دُسْتُورِ الغَيْب
لقد مات الحلاج ولم تمت روحه بعد , فالجبة التي جلس فيها مع الله لم تزل تتسع للكثير من الشعراء, غير أني أخشى أن بلى ولكن قد لا تجد في طواسينها متسعا للخلود , لا سيما ونحن في عصر يخول الكثيرون لأنفسهم فيه أن يكونوا شرطة الله في الأرض
أيُّهَا اللَّاهِثُونَ
خَلْفَ الحُوْر
حَتَّى و إنْ كُنَّ ذَوَات
مُؤخِّرَاتٍ جَهَنَّمِيَّة..
أُرِيدُ وَجْهَ الله
إن هذه اللغة الغائبة في الوجد , المتخمة بالحضور , سوط قد يجلد ظهر الشاعر بتهمة الزندقة ,فبالقدر الذي استطاع الشاعر أن ينفرد بصوت شعري خاص ورؤية خاصة كافرة بالتقليد والترميز الصادر عن الخوف , إلا أنه أجبر نفسه على الوقوف منفردا أمام الطوفان , ومن يقف أمام شرطة الله فما له من عاصم
و سَأَلْتُ مُوسَى
مُوسَى
لمَِ لَمْ تَرَهْ
و قَدْ تَجَلَّى !؟
فَأَجَابَنِي
تَدْرِيْ لِمَ ؟
قُلْتُ : لِمَ ؟
فَقَالَ لِي
“الحُبُّ
يا مِسْكِينُ أعْمَى”
إن الشعر اسم الحب الأعظم , به ومنه خلق الجمال فلا شيء قبله ولا شيء بعده , إلا قلب شاعر وزع روحه على أرواح العباد قائلاً
يا مَن تُحَدِّثُنِي
بأنَّ الحُبَّ
مِن قَلْبٍ إلى قَلْبٍ
يَسُوءْ
حَفَّزْتَ قَلْبِي
أنْ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ
عَلَى الجِرَاحِ
بِلا وُضُوء
لهذا استطيع القول : إن بلى ولكن حرفان خفيفان على اللسان ثقيلان في الميزان ,يقفان قاب قوسين أو أدنى من عرش الشعر , وشاعرٌ ما هو بساحرٍ قليلاً ما تؤمنون
لا تَنْتَظِرْ أحَدَاً
فَلا أَحَدٌ أَتَى
مِن قَبْلُ
كَلاَّ..
و لا أَحَدٌ
سَيَأتِي لِلأبَدْ
إلاَّ هُ
فَوْقَ العَرْشِ
تَحْمِلُهُ
الثَّمَانِيَةُ الحُرُوفِ
و شَاعِرٌ
مَا إنْ يَفِيضُ بِهِ الهَوَى
إلاَّ
و رَدَّدَ قَلْبُهُ
أَحَدٌ.. أَحَدْ
خليك معنا