بعد عدة مناشدات – بل قل استجداءات – طيلة شهور مضتْ من أعلى هرم السلطة اليمنية المُعترف بها دوليا «الشرعية» موجهة للملك السعودي سلمان بن عبد العزيز، ونجله الأمير محمد، وجّهَ الأول في 17 يناير الماضي بإيداع ملياري دولار في البنك المركزي اليمني في عدن لوقف تدهور قيمة الريال اليمني وللتخفيف من وطأة الأسعار و مِن عبء التدهور المعيشي والخدمي المريع. ولكن هذه الوديعة لم تصل وجهتها المقصودة حتى اليوم برغم ما يبشّر به مسؤولون يمنيون بين الحين والآخر، وبالذات كلما ساءت الأمور على الأرض… فالتكهنات التي تساق لتفسير هذا التأخير كثيرة، أبرزها أن المملكة ما تزال متخوفة من مصير هذه الوديعة في ظل تنامي غول الفساد الذي يطغى على حكومة د. أحمد عبيد بن دغر… فبرغم تنفيذ بعض الشروط التي طرحتها الرياض على السلطات اليمنية للإيفاء بتسليم ذلك المبلغ – الذي هو بالأساس عبارة عن وديعة بنكية وليس منحة أو هبة مالية – ومن تلك الشروط شرط تغيير محافظ البنك المركزي القعيطي، بوزير المالية السابق زمام، وبرغم الزيارة التي قام بها قبل أسابيع إلى عدن السفير السعودي باليمن، فإن مصير هذه الوديعة يراوح مكانه من الغموض.
عاد الحديث عن هذه الوديعة أخيراً على خلفية جولة جديدة من انهيارات العملة المحلية (الريال اليمني) أمام العملات الأجنبية ومنها الدولار الأمريكي الذي تجاوزت قيمته خلال الـ 24 ساعة الماضية حاجز الـ 500 ريال يمني، ترافق هذا الانهيار مع موجة جديدة من تصاعد لأسعار السلع والخدمات في عدن وعموم الجنوب بل وفي سائر اليمن الذي تعصف به معاناة لا حصر لها من غياب الخدمات واتساع دائرة الفساد والتسيب بكل الدوائر والمؤسسات الحكومية، يمثل غياب المشتقات النفطية والغازية أبرز ملامح هذا الوضع البائس الى جانب تردي قيمة العملة الوطنية الذي يلقي بظلاله الكئيبة على كل مجالات الحياة.
ومع ذلك، حتى وإن وصلت هذه الوديعة الى البنك المركزي اليمني الذي يدور حوله هو الآخر جدل إعلامي حاد بمسألة بقائه بعدن أو نقله إلى الخارج، فالوديعة لن تكون أكثر من مسكّن مؤقت في ظل اقتصاد منهار وفساد مستشر بكل مفاصل الدولة وثناياها، ووضع «اللادولة» اليمنية، وتنازع البلد عدة أطراف بمشاريع وأطماع متعددة محلية وإقليمية ودولية وتناثر الموارد والطاقات المحلية ما بين أيادي ناهبة من الداخل وقوى طامعة من الخارج.
فلم يعد خافياً على كل لبيب أن الحرب الدائرة باليمن لا تتم بأسلحة عسكرية فقط، بل أضحى الاقتصاد والمال والأمن والخدمات الأساسية والثروات الوطنية ومستقبل الموانئ البحرية أقوى الأسلحة وأخطرها بيد كل القوى المتصارعة، وبالذات الإقليمية، بعد أن تعثر الحسم العسكري طيلة ثلاثة أعوام من حرب مدمرة. فـ«التحالف العربي» والمملكة السعودية بالذات تراهن على تحقيق أهدافها باليمن، وبالذات هدف هزيمة الحركة الحوثية في الشمال، وهدف تثبيت الوجود والهيمنة السعودية باليمن على أوراق غاية بالأهمية والخطورة كالتي ذكرناها آنفاً تمثل بالنسبة لبلد فقير كاليمن بمثابة سلاح نووي بوجهه.
فعلى مدى خمسة عقود ونيف من الزمن، وبرغم مليارات الريالات السعودية التي ضختها وما تزال المملكة باليمن من خلال قنوانها المتعددة ومنها اللجنة الخاصة، فإنها لم توردها لخزينة الدولة اليمنية على الإطلاق، سواء خزينة دولة اليمن الشمالي قبل وحدة 90م أو خزينة دولة يمن ما بعد ذلك التاريخ. نقول إن كانت هذه هي سياسة المملكة في تلك الفترات التي كانت في اليمن ما تزال تمتلك شيئاً من الدولة والهيبة، وفي حين كانت المملكة تعيش بعز مجدها المالي وبذروة استقرارها الداخلي والخارجي، فكيف لها أن تغير من سياستها تلك نحو الأفضل اليوم وتكون أكثر كرماً بعد أن اهتزت أركان خزينتها المالية، وبعد ثلاثة أعوام من حرب مكلفة لها باليمن، وهي الحرب التي استنزفت طاقاتها وامتصت جزءاً من مواردها، التكاليف العسكرية والمالية والاقتصادية وما يضاف إليها من أموال تضخها المملكة مجبرة لحساب قوى حزبية وسياسية ورموز عسكرية تمارس تجاهها كل أنواع الابتزاز والاستغلال؟
فعبر التاريخ الحديث اعتمدت الرياض في مسألة توصيلها للدعم المالي والاقتصادي لليمن الشمالي قبل عام 90م بل وحتى يمن ما بعد 90م على عدة قنوات سعودية رسمية، منها اللجنة الخاصة وقنوات أخرى، لتضخ من خلالها مليارات الريالات السعودية لجهات يمنية غير رسمية، مثل شخصيات وكيانات قبيلة ودينية وحزبية وسياسية، وحتى لقيادات عسكرية وأمنية بصفتها هذه الأخيرة الشخصية، وحتى حين كانت تودع بخزانة الدولة اليمنية مبالغ مالية على قلتها وقلة حالاتها فهي تودعها كودائع بنكية كديون وبفوائد كالوديعة الأخيرة.
ثمة سببان على الأقل جعلا المملكة تتخذ من تلك القنوات اليمنية غير الرسمية طريقاً لإيصال أموالها الى الداخل اليمني، أولاً: لتوظيف تلك الأموال لخدمة المصالح السعودية ولتثبيت نفوذها وسيطرتها على صانع القرار السياسي بصنعاء ولسهولة التحكم به كأفراد وكجهات وكسلطة سياسية بالأخير. حيث كانت وما زالت تلك الأموال تمثل رشوة سياسية مقنعة لشراء ولاءات ومواقف شخصيات وكيانات يمنية مختلفة بعد أن أجزلت لها الأموال، الأموال التي لا يطالها حسيب ولا رقيب. ثانياً: أن ذهاب هذه المبالغ لتلك الجهات يعني للمملكة أنها لن تذهب لبناء مؤسسات دولة يمنية ولا لتقوية اقتصاد وانتشال أوضاع تنموية وتعليمية ومعيشية، مما يعني ذلك بالنسبة للرياض أيضاً ضمان بقاء اليمن ضعيفاً ممزقاً على كل المستويات، اقتصادياً وعسكرياً وتنموياً وتعليمياً وثقافياً واجتماعياً، مأموناً جانبه من أي خطر أمني على حدود المملكة، ويجعله بالتالي يمناً سهل التطويع وليّن التحكم بمستقبله، لئلا ينهض على حدودها الجنوبية كدولة قوية تمتلك كل أسباب وطاقات النهوض من بشر وثروة وموقع جغرافي مميز وتأريخي عريق وحضارة تليدة، ويشكل بالتالي خطراً وجودياً على المملكة، كما حدث لها قبل ذلك وبعده في جهتها الشمالية: العراق. هذا ناهيك عن الهاجس المؤرق الذي ظل يلازم المملكة تجاه اليمن والمتمثل بموضوع الحدود ومسألة الأراضي التي ظل اليمن يدعي ملكيته لها ــ جيزان ونجران وعسير ــ قبل أن يتنازل عنها العام 2000م مقابل طرد الرياض للقيادات الجنوبية التي نزحتْ بحرب 94م.
وبالعودة إلى الحديث عن الأوضاع المعيشية والاقتصادية المتردية باليمن وفي عدن والجنوب تحديداً وعطفاً على ما تقدم ذكره، سيظل هذا الأمر بالنسبة للمملكة ورقة مساومة سياسية تشهرها بوجه كل القوى باليمن حاضراً ومستقبلاً، سواء كانت تلك القوى موالية لها أو غير ذلك، بعد أن اضمحل عندها دوائر الحكم بالرياض عامل الثقة بكل القوى اليمنية، وباتت تعتقد أن خذلاناً صريحاً قد طالها من قوى وشخصيات يمنية ظلت تقدم لها كل الدعم والمساندة المالية والسياسية طيلة عقود من الزمان، ومن تلك القوى على سبيل المثال القوى الموالية للرئيس السابق علي عبدالله صالح، و«حزب الاصلاح» وقبيلة حاشد وشيوخ بيت الأحمر على وجه الخصوص، وهم الذين ترى المملكة أنهم قد أداروا لها الظهر وتنكروا لصنيعها التاريخي معهم لمصلحة حركة «الإخوان» في غمرة ثورات الربيع العربي وحتى لصالح الحركة الحوثية.
ففي الوقت الذي سيكون فيه الوضع الاقتصادي الحالي باليمن هو «كعب أخيل» لأي قوى تحكم اليمن بالمستقبل، فإنه سيكون بالمقابل نقطة القوة للسياسة السعودية وورقتها الرابحة باليمن… فعلى سبيل المثال هذا المتحدث العسكري السابق لـ«التحالف» العميد أحمد عسيري، يعلنها صراحة بأن لا مجال للحديث عن أي إعمار بالمناطق المحررة قبل إسقاط صنعاء… وهو هنا ينطلق من منطق: «سلّم واستلم»، أي: أسقطوا صنعاء لنشرع بالحديث عن الإعمار.
فهنا يكون الأمر واضحاً، بأن «التحالف» غير عاجز عن استعادة مؤسسات الدولة ولا عاجز عن توفير الخدمات ولو الخدمات الضرورية وبحدودها الدنيا في المناطق الواقعة تحت سيطرته، بل هو لا يريد ذلك أن يكون بدرجة طبيعية لتخوفات وحسابات سياسية في ظل استمرار ضبابية المشهد اليمني بوجهه، وفي ظل افتقار «التحالف» لأي مشروع سياسي شامل وواضح باليمن بعد فقدانه لعنصر الثقة من كثير من القوى اليمنية، وفي الشمال بشكل أكبر، وفي ظل عدم بروز قوة سياسية وعسكرية هناك يمكن الوثوق بها خليجياً.
خليك معنا