الشروط التي تبلورت بموجبها الحاجة الى قيام الدولة بصيغتها المعاصرة منذ القرن التاسع عشر سهلت عملية قيام هذه الدولة في ظروف كانت فيها العصبيات القومية والدينية والعرقية لا تزال قوية وقادرة على انتاج تحديات كبيرة امام إنجاز مثل هذه الدولة.
ومن أجل إنجاز هذه المهم التاريخية الكبرى كان لا بد لبعض القوميات والاعراق التي تتمتع بثراء كبير أن تضحي بجزء من هذا الثراء لصالح الدولة المعنية بتوفير الامن والاستقرار وحماية الملكية وتنويع الاقتصاد، والمعنية ايضاً بإدارة البلاد لحماية الجميع ومساعدة القوميات والاعراق في الأقاليم والمناطق الفقيرة والغنية على السواء.
ومن وجهة نظر جميع أبناء هذه الدول اغنيائهم وفقرائهم، فقد شكل قيام الدولة مكسباً عظيماً كان يجب ان يلتف الجميع لحمايته والدفاع عنه. ثم اخذت الدول بعد ذلك تبحث في كيفية صياغة الأنظمة السياسية والاجتماعية والإدارية المنظمة لعلاقة الدولة بالمجتمع وعلاقة المجتمع بالثروة.
إن المسألة التي حسمت قيام الدولة في نهاية المطاف هي طبيعة النظام السياسي والاجتماعي الذي أديرت به الدولة من ناحية وتفاعل الأعراق المكونة للشعب مع الطريقة التي تدار بها مصالح الجميع. في اليمن قامت دولتان في الجنوب وفي الشمال، لم تستطع الوحدة بينهما أن تغير وقع ومكانة الدولتين في حياة شعبيهما، سوى أن نظامها الذي ساد بالحرب تعسف مفهوم الدولة وأساء اليه، مما أبقى الدولة القديمة كامنة في نفوس ابنائها.. وكل ما عمله هذا النظام هو انه خرب حتى الروابط التقليدية بين أبناء الدولة القديمة كل على حدة، وأنتج حالة مركبة من ضعف الانتماء الى الدولة بصيغها المختلفة.
تذكرت هذا يوم امس وأنا استمع الى أم محترمة من نساء عدن، أعرف كفاحها في تربية اولادها وتعليمهم، فقد تخرج منذ اربع سنوات اكبر أولادها في مجال البترول واخذ يبحث عن عمل دون جدوى حتى أعلن عن ستمائة وظيفة في مجال البترول في محافظة خضرموت.
تقول : ” تنفست الصعداء وقلت الحمد لله حضرموت اهلنا وناسنا، لا بد ان يكون لإبني نصيب من هذه الوظائف فهو من الأوائل، وحتى إذا دخل المنافسة أني متأكدة انه با ينجح. استلفت عشرين الف ريال وسافر بالباص من عدن وإني ادعي ربه يوفقه.
بعد اربع أيام اتصل بي من المكلى وما خليته يتكلم كنت متلهفة اشتي اعرف ايش عمل.. قال لي بصوت هادئ وهو يتألم: رفضوا يستلموا مني الملف لان الوظائف زي ما قالوا لأبناء حضرموت فقط. قلت له طيب مَش نحن دولة واحدة…”.
لم تكمل حديثها، كانت في غاية الالم والتأثر. لا تكمن المشكلة في ان هذا الشاب لم يوفق في الحصول على الوظيفة ولكن في الطريقة التي حرم بها من الوظيفة.
اذا صح هذا الخبر فنحن أمام معضلة تتجاوز معضلة الوحدة الفاشلة والحرب، فلربما كان هناك من يريد ان يوظف هذ الوضع السائد والمؤقت لإنتاج وضع أشد مرارة يقرر مستقبل البلاد على نحو دائم. ويبقى تساؤل الام المسكينة :” طيب مَش نحن دولة واحدة ” معلقاً بدون اجابة، ولا ادري من قصدت به الدولة الكامنة ام الفاشلة التي اورثتنا هذا الشتات !!