لم يتمرد الغرب، كما أوهمونا، على ثقافة أكثر من ألفي سنة من الكراهية لليهود بصناعة دولة يهودية. ما كان ذلك إلا خدمة للمشروع الإستعماري الصهيوني في منطقتنا. كل ما في الأمر أنهم وجدوا، ومن خلال توظيف الدين، أن اليهود هم الأقل كلفة في تنفيذ ذلك. كشفت لنا الوثائق أن هناك اتفاقاً صهيونياً مع النازيين (بين عزرا وايزمن والفهرور هتلر) يقضي بإحراق اليهود المتدينين في أفران النازية. لقد كان الحاخامات المتدينون يقفون بقوة حينها ضد مقررات مؤتمر بازل في سويسرا وضد قيام دولة يهودية لليهود، باعتبار ذلك مخالفة لمشيئة الرب الذي فرض على اليهود التيه والشتات كما ورد في التوراة وفي الثقافة اليهودية والانسانية عموماً.
بلا شك، يُعدّ هذا الإجراء ثورة تعسفية صهيونية ضد الديانة اليهودية التقليدية، وبموجب هذا الإتفاق جعل النازيون أوروبا جحيماً أمام العائلات اليهودية ليترسخ لدى الأخيرة مفهوم بأنه لا ملجأ ولا منجاة من جحيم الرب في أوروبا إلا بأن يجتمع اليهود على صعيد واحد في أرض الميعاد. إذاً، فقد انتصرت هنا ثقافة أرض الميعاد الصهيونية على ثقافة التيه والشتات اليهودية، وسهلت لليهود هجرتهم من كل حدب وصوب إلى فلسطين، بما في ذلك من اليمن، في هجرات تعاونت فيها الوكالة الصهيونية مع البريطانيين، في رحلات أطلقت عليها تسمية «بساط الريح».
في اعتقادي أن الهدف من ذلك المشروع هو صناعة دولة وظيفية لا يمكنها الإستمرار في الوجود إلا باستمرار الصراع بينها وبين جيرانها كحتمية لاستمرارها، ولذلك دأب الغرب على الإنفاق على هذا الكيان الذي طعنوا به خاصرة الوطن العربي، لتكون محصلته النهائية جعل منطقتنا بؤرة ساخنة للصراعات والثورات الدائمة. هذا هو الهدف الأساسي أو حجر الزاوية لهذا المشروع الخطير الذي دعا لقيام الدولة اليهودية في فلسطين، والذي تدور اليوم حوله وفي فلكه غالبية مشاكلنا المعاصرة.
وفي المقابل، وللسبب ذاته، أُوجدت كيانات مغلفة بالوطنية الزائفة وبالإسلام السياسي لاستمرار هذا الصراع. فهذه الجماعات تقتل مستوطناً إسرائيلياً أعزل لتقوم مقابله إسرائيل بإجراء تجاربها الحية بالأسلحة الغربية المحرمة لقتل العشرات أو المئات من العرب الذين خرجوا عن نطاق تبعيتهم الجغرافية، وبالتالي خروجوا كذلك عن التبعية الأخلاقية، خاصة بعد قيام مناطق الحكم الذاتي، ولتستمر إسرائيل مقابل ذلك أيضاً في بناء المزيد من المستوطنات وفي بناء جدارها العازل بحجة حماية مواطنيها من عدو تُصوّره – وبمساعدتنا – بـ«الإرهابي».
نحن في خضم هذا الصراع الذي لم نستوعبه ولم ندرك ماهيته ولم نرشده، خسرنا الكثير والكثير، ويصعب حصر هذا الخسران الذي يطوقنا عن يميننا وشمائلنا ومن فوقنا ومن تحتنا، حتى أنه يكاد يغرقنا وينهينا كأمة عربية وإسلامية فاعلة كانت في القريب من خير الأمم، وكانت فاعلة في الحضارة الإنسانية.
بعد قانون تصفية الإستعمار، تخلت الدول المستعمِرة، من الناحية الأخلاقية عن كل ما يجري في مستعمراتها السابقة، رغم وجودها الفعلي القبيح من خلال إدارتها لتخبطات القوى الثورية التي حلت بديلاً عنها. ودعني أقول إن أسوأ ما في الأمر بعد رحيل المستعمر هو أنه قد سادت بيننا الإنقلابات التي نسميها بالثورات. هذه الثورات في الغالب الأعم تنقلنا من هزيمة إلى أسوأ منها، ومن فقر إلى إملاق، وترسّخ لدينا ثقافات ثورية صنعت بقوة الإرهاب الفكري، تجعلنا نمجّد أكثر من ألحق بنا الهزيمة من بني جلدتنا من الزعامات المشبوهة التي جلبت لنا الخسران المبين، طالما وهذه الزعامات تحمل شعار تحرير فلسطين. والأمثلة في واقعنا السياسي المعاصر كثيرة.
فالقاسم المشترك لهذه الإنقلابات الدموية هو الدعوة الزائفة لتحرير فلسطين، وفي الواقع العملي فهي تستبيح كل مقدراتنا وقيمنا من أجل المشروع الإستعماري الأخطر الذي يصرّ على أن يجعلنا أسوأ أمة في عالمنا المعاصر، من خلال «الصهيونية الإسلامية» التي قطعت شوطاً كبيراً في الانقلاب، من خلال الإسلام السياسي، على التراث الإسلامي بكل موروثه، مرجحة قليل أناته على كثير حسناته، وهو نفس الإنقلاب الصهيوني بحسب مقررات المؤتمرات الصهيونية على الديانة اليهودية. هذا الصراع بين الإسلام والصهيونية نشاهده واقعاً بشكل يومي في حياتنا الثقافية والاقتصادية والسياسية والأمنية والدينية أيضاً.