الصباح اليمني_مساحة حرة|
كان يحقق الوسطاء نتائج ظاهرة في وقف إطلاق النار وتهدئة الأعصاب العسكرية، وتلطيف الأجواء في الجنوب اللبناني. ذات السيرة ما زالت مستمرة حتى يومنا هذا. تتوتر الأوضاع، وتسخن الأجواء، وتتبادل الأطراف القصف والقذائف ويهرول الوسطاء وعلى رأسهم المصريون من أجل إطفاء الاشتعال. والنتيجة في النهاية ذاتها.
لكن السؤال الذي يطرحه الفلسطيني دائما على نفسه: كم من مرة التزم الصهاينة بتفاهمات أو بوقف لإطلاق النار؟ إذا راجعنا السجلات فإننا لن نجد مرة واحدة خرق فيها الفلسطينيون التفاهمات، والصهاينة هم دائما يكسرون الهدوء ويقومون باعتداءات جديدة متجددة ضد الفلسطينيين.
والملاحظة الأخرى التي من المفروض أن تكون موضوع مراجعة: متى قرأنا تفاهما مكتوبا بين الفلسطينيين والصهاينة بوجود شهود وكفلاء يراقبون مسائل خرق وقف إطلاق النار. لا يوجد تفاهمات مكتوبة، ولا يوجد ضمانات للالتزام بما يتم التفاهم عليه، ولا يوجد كفلاء. وفي ذات الوقت، يتنصل الوسطاء من مسؤولياتهم عندما يتم الخرق. هم يرسلون الوفود ويعقدون الاجتماعات ويوظفون أوقاتا وجهودا من أجل إحلال الهدوء، لكنهم لا يتحركون ولو بالكلمة للوقوف بوجه الذي يخرق التفاهمات. لم نجد وسطاء حتى الآن يتحملون مسؤولية وساطاتهم.
تحاجج فصائل فلسطينية إن وجود تفاهمات مكتوبة يدفع الفلسطينيين إلى القيام بأعمال غير مقبولة وطنيا وهي الاجتماع مع الصهاينة على ورقة واحدة ما يشكل اعترافا بالكيان الصهيوني. طبعا مثل هذه التفاهمات عرضية وليست تركيبية ولا يمكن وضعها في الميزان الاستراتيجي. إنها عرضية لأنها ليست محددة للصراع الدائر منذ عشرات السنوات، ولا يستند حل للقضية الفلسطينية إليها، وإنما هي تمس نشاطات ذات نمط تكتيكي وصبغة يومية.
لكن قيل للفصائل مرارا إن عليها ألا تدخل في تفاهمات مكتوبة مع الصهاينة حتى لا يلتزم جانب فلسطيني بتوقيع لا يستند إلى تحقيق الثابتين الفلسطينيين وهما حق العودة وحق تقرير المصير. والمفروض أن الفصائل الفلسطينية تتصرف عسكريا وفق إمكاناتها وقدراتها وليس بأكبر من حجمها على أن تعمل باستمرار على تطوير إمكاناتها وقدراتها حتى تكون أكثر فاعلية في مواجهة الاحتلال.
ولهذا من الأنسب أن توقف الفصائل القتال عندما ترى ذلك مناسب مع الإعلان الواضح والصريح بأنها توقف القتال من جانب واحد بزمن معين، وتوضح أنها ستستأنف القتال إن لم يتوقف الطرف الآخر عن العدوان.
هكذا تكون الفصائل واضحة أمام العالم، وتخلي مسؤوليتها عن استمرار الاشتباك الناري، ولا تلجأ إلى مفاوضات غير مباشرة مع الاحتلال من خلال الوسطاء. أي يجب أن تكون الفصائل هي صاحبة القرار بشأن صمت القنابل والصواريخ دون انتظار قرار من الصهاينة مع الاستعداد المستمر للرد على قذائف العدو.
وفي احتكار قرار وقف القتال لا تدخل الفصائل في محرمات القضية الفلسطينية وإنما تبقى وفية لموقفها المبدئي الذي يرفض العدو والجلوس معه ومحاورته بصورة غير مباشرة. فمن شاء أن يتجنب المحرمات الفلسطينية لا يعتمد على وسطاء، وإنما يفكر بطرق أخرى لا تعطي انطباعا تطبيعيا ولو بالرائحة.
في هذه الجولة الأخيرة، سمعنا في الأخبار عن تفاهمات أفضت إلى وقف إطلاق النار وسيادة الهدوء في قطاع غزة وفي الكيان الصهيوني. كالعادة، لم نقرأ ورقا، ولم نعلم عن ضمانات ولا عن مسؤولية الوسطاء. وقف القتال في 14/تشرين 2، لكن الصهاينة قصفوا غزة في 15/تشرين 2، وفي 16/تشرين 2 أيضا، أي يوم كتابة هذا المقال. والصهاينة لا يمكن أن يلتزموا بخاصة بوقف الاغتيالات وقصف المواقع العسكرية التابعة للمقاومة الفلسطينية في غزة وخارج غزة. هؤلاء على إصرار تام بأن من واجبهم الأمني ضرب أي هدف يحددونه ويتمكنون منه في أقرب فرصة تلوح. هم لا يفوتون فرص القتل والتدمير من منطلقات أمنية والتي تعتبر هاجسهم الأول والأكبر. وإذا لاح لهم هدف يبحثون عنه هذه الساعة ويتمكنون من القضاء عليه فإنهم لا يترددون. ولهذا علينا ألا نثق بما يقولون إنهم التزموا به أو وافقوا عليه. هؤلاء لا أمان لهم ولا عهد ولا وعد ولا ميثاق، ومن يثق بهم يعاني بالتأكيد من السذاجة وقلة المعرفة بالتاريخ.