وكيف يكون الفِخَار! وكيف يكون مذاق الكرامة حلوًا، بعد مذاق العار؟! يا من فتحتموه وقد كانت- قبلكم- كلّ أيامنا ليل، وكلّ حكاياتنا ويل، وكل حكّامنا ذيل! ووزننا في هذا العالم أخفّ ممّا يحمله السّيل!
يا أيّها الكبار! أنتم أكبر حتّى من أحلامنا، فكيف نصدّق أنكم موجودون بالفعل؟ أين كنتم طوال هذا الوقت؟ لقد كانت القنوات الرّسمية تُخبرنا- كلّ يوم- أن عصر البطولات انتهى! وأن عصر الكرامة انتهى! وأنه تم ترحيل مفردات الشرف- بأمرٍ من الوالي- إلى الآخرة!
أين كنتم يا كواكبنا السائرة وقد كان ممنوعًا علينا ممارسة الفخر؟ وحينما كانوا، حينما نوشك على الموت للنقصان الحاد في منسوب الكرامة، فقط! ينتجون لنا مسلسلًا عن الزّير سالم؟!
هل كنتم بيننا؟ ونحن نتحلّق حول الزّير سالم، منسوب الكرامة يرتفع مع كل مشهدٍ للبطل الصمصام والفارس المقدام، يصيح “يالثارات كليب”! فيصيح العالم العربيّ كلّه وراءه: يالثارات كليب! كانوا يخبروننا في القنوات الرسميّة انظروا، ها هو بطلكم الذي هبّ لنصرة أخيه! ثمّ- وحينما أخذنا من الكرامة أكثر ممّا ينبغي- رأينا بطلنا الصمصام وفارسنا الهُمام يبيع شرفه للعابرين مقابل جلد ماعز!
هل كنتم بيننا؟
كيف سمحتم بإنهاء المسلسل على هذا النحو؟!
كنّا نتناول كل عامين مسلسل، مصل لقاحٍ للحفاظ- فحسب- على حياة العبيد الذين يحتاج إليهم الزعماء المخصيّين لإظهار فحولتهم! مع الحرص في نهاية كلّ مسلسلاتنا وحكاياتنا على إثبات ذلّنا: كسروا ظهر الزير، أفسدوا أخلاق امرؤ القيس، وأفسدوا أيّامنا وأخلاقنا وأحلامنا، وأبطالنا- حتى في السّير الشعبيّة- حوّلوهم إلى سكارى ومهرجين ومعدوميّ الشرف!
فهل كنتم بيننا؟
ونحن نتجرع الذلّ حتى في مسلسلاتنا!!
أين كنتم حينما تحوّل “الحلم العربي” إلى أوبريت! زهرة المدائن إلى أغنية! وحينما لم يكن أحدٌ في هذا العالم يسأل عن الشعب العربي وين؟ باستثناء جوليا بطرس؟!
أين كنتم والغرب يذبح “أبطالنا” أمامنا مثل خراف العيد! ونحن نشاهد الدبابات الأمريكيّة تصل إلى بغداد من جنوب البصرة في أقل من شهر! وعلى الهواء!! أين كنتم؟ ودبابات العلوج تمرّ من وراء الصّحاف، في بغداد وأمام شاشات التلفزيون، ونحن نصدّق الصّحاف ونُكذّب عيوننا؟!
لقد كنّا- يا نور عيوننا- نبحث عن بطل، نبحث عنه ولو كذبًا! يتنافخ حكّامنا أمامنا شرفًا ونحن نعرف أنّهم لا يملكون شرف، لكنّنا نعلّق صورهم على الجدران وفي صدورنا! كنّا نقول: يكفي أنّهم تحدّثوا عن الشرف!
لقد كان الحديث عن الشرف- محض الحديث- غاية الشرف!
أين كنتم- يا أشرف من خلق الله وأكرم من خلق الله- وبوش يهدّد بغداد فتتخلى ليبيا عن مشروعها النّووي! وإذا رفع زعيمٌ رأسه- حتى أمام زوجته وفي جنح الليل- تتم ملاحقته حتى مواسير الصرف الصّحي! وأين كنتم حينما قالتها تسيبي ليفني في العلن: فيديوهاتكم لدينا يا كلّ من تملكون منصبًا في أرض العرب!
أين كنتم ومبارك يقول “دي أمريكا”؟! أميرٌ عربيٌّ يخسر مليونيّ دولار في جلسة قمارٍ في لاس فيغاس عشيّة حرب الخليج! فيديو لملكٍ عربيٍّ يتجوّل مخمورًا في شوارع باريس! القبض على أميرٍ يقتل خادمه تحت تأثير المخدرات! آخرٌ يُهرب الكبتاغون ويُقبض عليه في أحد المطارات! آخرٌ يضرب حقنةً لأخيه تُدخله في غيبوبةٍ لسنوات! وحُكّامٌ “عرب” يتورّطون في تهريب يهود الفلاشا!
هل كنتم بيننا- يا أطهر من خلق الله- والعالم لا ينشر إلّا مخازينا؟! ولا يتسلّط علينا إلّا أوسخ من فينا! هل كنتم بيننا وقد أصبحت عواصمنا مواخير! وحكّامنا خنازير! ولحانا زنانير! وفقراءنا طوابير لأنّ أموال مُترفينا مخصّصةٌ لاقتناء الغانيات واستهلاك العقاقير؟!
والخطباء في كلّ جمعةٍ يرفعون أكفّهم إلى السّماء: ألا فلتفنهم اللهم بددًا ولتُحصهم عددًا ولا تغادر منهم- يا ربّ السموات- أحدًا! ولكن- يا ربّنا العظيم- بجنودٍ من عندك! لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده- يا إلهنا- فلتهزم الجَمعَ بجنودٍ من عندك إلهنا يا ربّ السموات، واتركنا هنا لممارسة شؤوننا، لسياراتنا اللامبورجيني التي تنتظرنا لدى الباب، ولمواسم الترفيه ولبرنامج “ارب آيدول”، وحينما نموت- يا إلهنا- فلتدخلنا الجنّة مع النّبيين والصّدّيقين والشهداء والصّالحين!
لقد كانوا يرفعون أكفّهم إلى السّماء وهم موقنون بأنّ الله لا يستجيب إلا لمن أناب، وكانوا مطمئنين لأنهم محض قطيعٍ من ذئاب، لقد كانوا يمزحون- فيما يبدو- لكنّه رحمةً بعباده المستضعفين “الذين يستحون” استجاب!
ولأنّهم “لا يستحون” خفضوا أكفّهم، سلّطوا ألسنتهم عليكم يا رجال الله حدادا، توافدوا على أبواب نتنياهو أجنادا، له لا عليه! ثمّ أعلنوا عليكم الجهاد بالسّنن! أمّا أوسطهم فقال أنّكم تُجّار الفِتن، ثمّ صاح في النّاس: إيّاكم والفتن!
يااا وحدكم!!
يا كتائب القسّام ويا سرايا القدس ويا فصائل المقاومة! يا حزب الله ويا أنصار الله ويا رجال الله في الرافدين!
من أيّ عصرٍ جئتم يا فرسان النّهار! كيف تعملقتم هكذا برغم حُكّامنا الصّغار! كيف خالفتم “ما ألفينا عليه آباءنا”، وما عوّدتنا عليه نشرات الأخبار؟!
كيف؟ وقد كانوا يراقبون علينا حتّى أحلامنا، يحاصروننا حتّى في أنفاسنا، يفتشون حقائب نبضاتنا، وإلى ساحة الإعدام يُرسلون كلّ نبضةٍ تحمل في حقيبتها ذرّة كرامة، أو بقيّة شرف!
أين كنتم يا قلوبنا طوال هذا الوقت؟
لقد افتقدناكم يا عزّنا! ويا كرامتنا!
افتقدناكم حتّى جفّ الدّمع وجفّ النّبع وجفّت الذاكرة!
وإذا كنتم بيننا، فأين كُنّا؟
وإذا كان ما عشناهُ دُنيا، حقًّا! فهل أنتم البعث، أم أنّكم جنّتنا وهذه الآخرة؟
هل الارتواء أنتم؟ مرحبًا إذن!
فقد كنّا- يا ارتوائنا- نموت من العطش!