الصباح اليمني_السعودية
تناولت صحيفة واشنطن بوست الأميركية مسيرة صعود ولي العهد السعودي السابق محمد بن نايف، ثم ما وصفته بانهياره المأساوي لاحقا على يد ولي العهد الحالي الأمير محمد بن سلمان.
واستعرضت الصحيفة في مقال مطول كتبه المتخصص في الشؤون الخارجية ديفيد إغناتيوس، بداية انهيار مسيرة بن نايف منذ وفاة الملك السابق عبد الله بن عبد العزيز عام 2015، ثم الإطاحة به من طرف الأمير محمد بن سلمان نجل الملك اللاحق سلمان بن عبد العزيز، من ولاية العهد عام 2017، وانتهاء بالمرحلة الحالية التي يخضع فيها للاعتقال منذ عدة أشهر، وربما توجّه له اتهامات رسمية بالفساد.
وقالت الصحيفة الأميركية نقلا عن مصادر سعودية وأميركية إن لجنة مكافحة الفساد التابعة لولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، توشك على الانتهاء من تحقيق مُفصل في مزاعم فساد وخيانة بحق الأمير محمد بن نايف، بعد مرور 4 أشهر على اعتقاله.
وأضافت الصحيفة الأميركية اليوم أن لجنة مكافحة الفساد تستعد لتوجيه اتهام لولي العهد السابق وزير الداخلية السابق محمد بن نايف بالاستيلاء على 15 مليار دولار عندما كان يدير برامج مكافحة الإرهاب في الوزارة، وذلك من خلال شبكة من الشركات والحسابات الخاصة.
ونقلت الصحيفة عن مصدر سعودي خاص لم تسمه، أن المحققين طالبوا بن نايف بتسديد مبلغ 15 مليار دولار يزعمون أنه استولى عليها.
وتقول اللجنة إن بن نايف حوّل الأموال المذكورة بشكل غير قانوني عبر شركات وهمية وحسابات خاصة، لكن الصحيفة أشارت إلى أن وثائق اطلعت عليها من مقربين من محمد بن نايف تبين أن الاتهامات الموجهة له كاذبة.
صناديق مالية سرية
وتفيد الوثائق بأن أنشطة الصندوق المالية السرية حصلت على موافقة الملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز، على الأقل في خطوطها العريضة. إذ صدر في عام 2007 مرسوم ملكي بالموافقة على أنشطة محمد بن نايف ضمن برامج مكافحة الإرهاب، وعلى التقرير السنوي التفصيلي الخاص بالإنفاق على تلك البرامج.
كما تفيد الوثائق أن المرسوم الملكي السري -الذي صدر في 27 ديسمبر/كانون الأول 2007، ويظهر عليه توقيع الملك عبد الله- ينص على أن مساعد وزير الداخلية -وهو بن نايف حينها- سيكون مسؤولا عن إدارة الصندوق ونفقاته بطرق تدعم جهود مكافحة الإرهاب.
وكان الأمير بن نايف يشغل في عام 2007 منصب مساعد وزير الداخلية، قبل أن يتولى بعد ذلك بسنوات منصب الوزير بين عامي 2012 و2017.
وفي أوائل مايو/أيار 2013، رفع محمد بن نايف تقريرا للملك الراحل عبد الله يلخص الإنفاق السري على برامج محاربة الإرهاب برسم السنة المالية نفسها، ويطلب فيه الأمير الموافقة الملكية على مخصصات مالية بقيمة 5 مليارات ريال سعودي (1.3 مليار دولار) لتمويل 8 مشاريع.
ومن ضمن هذه المشاريع الثمانية “المطارات السرية” التي رصد لها مبلغ 378 مليون ريال، ومبلغ 1.6 مليار ريال لخدمات “النقل الجوي”، و1.5 مليار ريال لمستلزمات الأمن كالأسلحة؛ وقد وافق الملك على ذلك كما توضح الوثيقة.
وبعد 3 أيام من رفع التقرير، جاءت موافقة الديوان الملكي على طلب بن نايف تمويل تلك مشاريع، بما فيها بناء مطار سري وشراء أسلحة.
مسيرة طويلة
وتعود الصحيفة لتتحدث -في استعراض طويل- عن مسيرة بن نايف في وزارة الداخلية، وكيف تعامل مع العديد من العواصف التي واجهته في مسيرته تلك.
فتقول إن أول مشروع نفذه كان في عام 1999، وهو إصلاح أكاديمية الشرطة السعودية، وهي مركز تدريب متطور غالبا ما كان يجند منتسبيه عبر المحاباة والمحسوبية، وقد قام بإعادة تنظيم هذه الأكاديمية بمساعدة خريج موهوب يدعى سعد الجابري، وهو ضابط سابق في الشرطة السعودية حاصل على شهادة الدكتوراه في علوم الحاسوب من جامعة إدنبره بالمملكة المتحدة، واستمرت شراكة الرجلين حتى خلع بن نايف من ولاية العهد.
وبعد تحديث الأكاديمية، كلف بن نايف الجابري بإعادة تنظيم مكتب الشؤون العسكرية في وزارة الداخلية، وهو مركز آخر كان معروفا بالمحسوبية وضعف الأداء.
وواجه بن نايف أول اختبار حقيقي له عندما كان عليه أن يتعامل مع انتفاضة عام 2000 في نجران، وهي مدينة على طول الحدود الجنوبية للمملكة مع اليمن، فيها عدد كبير من أبناء الطائفة الإسماعيلية.
وبعد اعتقال رجل دين إسماعيلي بتهمة السحر، انشق العشرات من الضباط العسكريين وتعرض مقر حاكم المحافظة للهجوم، وأراد الحرس القديم في الوزارة شن حملة صارمة على المحتجين، لكن بن نايف آثر التفاوض والوصول لتسوية سلمية، ليصبح النمط التصالحي ديدنه في معالجة مثل هذه الأمور.
ولا شك في أن الإصلاح يكلف أموالا، وبما أن ميزانية وزارة الداخلية السعودية كانت إلى حد كبير مستنزفة بتكاليف الموظفين، فقد منح ولي العهد السعودي عبد الله بن عبد العزيز ابن أخيه محمد بن نايف عام 2003 حوالي 30% من عائدات الوزارة من الغرامات ورسوم جوازات السفر والإقامة وغيرها من الإيرادات، لتمويل أنشطة خاصة.
وبحسب أحد مساعدي بن نايف، فإن تلك كانت بداية الترتيبات المالية الخاصة التي أدت إلى التحقيق الحالي.
وكانت تلك المؤسسة الأمنية السعودية في ما يشبه السبات إلى أن جاءت هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001 في الولايات المتحدة، حين كان والده وزير الداخلية نايف مقتنعا بأن هذه الهجمات كانت مؤامرة تهدف إلى تشويه سمعة المملكة.
واستمر موقف الإنكار السعودي هذا حتى مايو/أيار 2003، عندما هاجم عناصر من القاعدة مجمعا سكنيا يسكنه أجانب في الرياض، فقتلوا 35 شخصا، بينهم 10 أميركيين، وهو الحادث الذي هرع على أثره مدير “سي آي إيه” (CIA) آنذاك جورج تينيت إلى الرياض، لعقد اجتماع عاجل مع الأمير عبد الله حذره فيه من أن العائلة المالكة تواجه تهديدا خطيرا.
ويتذكر تينيت أن مقابلته مع عبد الله حضرها نايف وابنه محمد، والأمير بندر بن سلطان، السفير السعودي في واشنطن والذي كان المترجم.
وحذر تينيت عبد الله من أن مؤامرات القاعدة “كانت موجهة ضد عائلتك والهيئة الدينية العليا في بلدك”، وحثه على “إعلان الحرب” على هذا التنظيم، وفقا لما جاء في مذكراته.
وعلى الفور، رشّح عبد الله بن أخيه محمد بن نايف قائلا له أمام الآخرين: “أنت من سيتعامل مع ملف مكافحة الإرهاب”.
وفي السنوات التالية، عمل محمد بن نايف على تحديث جهاز الأمن التابع لوزارة الداخلية والمعروف بـ”المباحث”، وحوّله إلى قوة متطورة لمكافحة الإرهاب، وقام بتمويل عملياته من خلال صندوق 30% المخصص لذلك.
لكن النفقات تفاقمت، وبحلول عام 2006 قرر الملك عبد الله منح بن نايف المزيد من الأموال لعمليات المخابرات السرية، وخاصة ضد القاعدة في شبه الجزيرة العربية، أو فرعها في اليمن.
وكان سخاء عبد الله الجديد مدفوعا جزئيا بعملية جريئة للقاعدة في فبراير/شباط 2006، بنت خلالها نفقا بطول 460 قدما لتحرير 23 من معتقليها في اليمن، بما في ذلك زعيم هجوم عام 2000 على المدمرة الأميركية “يو إس إس كول”.
وهنا خصصت منحة طارئة بقيمة 200 مليون ريال (53 مليون دولار) عام 2006 لجهاز بن نايف الجديد، لمضاعفة عملياته ضد القاعدة في شبه الجزيرة العربية.
ماذا قالت المخابرات لامريكية؟
وفي محور آخر، تتحدث الصحيفة عن آراء بعض من عايشوه عن قرب من مسؤولي المخابرات الأميركية، حيث تنقل عن مسؤولين سابقين في وكالة المخابرات المركزية للصحيفة أنهم كانوا على علم بسيطرة بن نايف على مثل هذه الحسابات السرية لمكافحة الإرهاب، وأنهم استخدموها للمساعدة في تمويل المشاريع الأميركية السعودية المشتركة.
وتنقل عن المدير السابق لوكالة المخابرات المركزية الأميركية جون برينان -الذي عمل بشكل وثيق مع بن نايف لأكثر من عقد من الزمن- أنه كان يعلم بأمر هذه الحسابات، وأنه لا يعتقد أن بن نايف تورط في نشاط فاسد أو كان يسرق المال.
الموقف ذاته أكده أيضا جورج تينيت الذي كان مديرا لوكالة المخابرات المركزية عندما تولى بن نايف ملف مكافحة الإرهاب عام 2003، حيث تحدث بشكل لافت عن الرجل في كتابه “في مركز العاصفة” الذي نشر عام 2007.
وقال جورج تينيت في كتابه متحدثا عن بن نايف إنه “شخص طورنا فيه قدرا كبيرا من الثقة والاحترام، وإن العديد من النجاحات في تفتيت القاعدة في المملكة هي نتيجة جهوده الشجاعة”.
وثائق بيد محامين في الغرب
ونقلت واشنطن بوست عن أحد مساعدي بن نايف قوله إن فريق محاميه يحتفظ بهذه الوثائق في بريطانيا وسويسرا، وستكون متاحة في أي إجراء قانوني أو دولي قد يطرأ مستقبلا.
يشار إلى أنه قبل اعتقاله في 7 مارس/آذار الماضي، كان الأمير محمد بن نايف قيد الإقامة الجبرية منذ الإطاحة به من ولاية العهد من قبل ولي العهد الحالي محمد بن سلمان في يونيو/حزيران 2017.
وتتوقف الصحيفة عند محطة أخرى هي العلاقة بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب وولي العهد السعودي محمد بن سلمان، الطموح والمجازف الذي وجد حليفا قويا عندما أصبح دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة، حيث اضطر بن نايف لتقديم الطاعة والولاء له وتم عزله في يونيو/حزيران 2017، وقام بن سلمان بعد ذلك بالإطاحة بكل حلفائه ومؤيديه في المملكة قبل أن يقوم بعد ذلك بأشهر فقط بإلقاء القبض على عشرات من الأمراء ورجال الأعمال.
تراجيديا مسرحها الصحراء السعودية
وفي ختام المقال، يقول ديفيد إغناتيوس إن الصعود المبهر والانهيار المأساوي للأمير محمد بن نايف يعتبر تراجيديا جديدة من قصص شكسبير، مسرحها صحراء السعودية.
ويؤكد الكاتب بعد ذلك أنه مهما كانت إخفاقات بن نايف، فإن ضباط المخابرات الأميركية الذين عملوا معه يعتبرونه بطلا ساعد في إنقاذ بلاده عندما كانت مهددة بشكل خطير، مستحضرين شعار جهاز المباحث الحديث الذي لم يأل محمد بن نايف جهدا في تأسيسه، وهو: “وطن لا نحميه، لا نستحق العيش فيه”.
خليك معنا