يبدو أن سياسة الولايات المتحدة الأمريكية في ما له علاقة بتدمير المنطقة العربية وتفتيتها لصالح حليفهتا الأساس إسرائيل، استراتيجة ثابتة لم تتغير إلا من حيث استخدام الوسائل والطرق المحققة لهذا الهدف الكبير.
منذ التحريض على حرب الخليج وغزو العراق وإعدام رئيسه صدام حسين، في عهد بوش الابن، مروراً بخلق الثورات العربية، ودعم التيار الديني السياسي الممثل بـ«الأخوان المسلمين» تحت مسمى «الإسلام المعتدل»، وإشعال المنطقة العربية باقتتال طائفي ومذهبي في زمن أوباما، وحتى عصر ترامب الحالي، الذي يكمل اليوم ما بدأه سابقوه، وإنْ برعونة وصلف، مهدداً بالعصا دون أن يقدّم جزرة، في سابقة غير معهودة في علاقة أمريكا بالدول العربية، وبالذات الخليجية منها، تحت لافتة «محاربة الإرهاب».
الأزمة الخليجية غير المسبوقة التي جرّت معها دولاً عربية وستجرّ معها دولاً أخرى، بما في ذلك دولاً إسلامية، ليس من المرجح أنها ستتوقف عند حد التخندق السياسي فقط، وإنما ستتعداه إلى خلق ما يمكن عدّها أحلافاً جديدة، يمكن أن تودي بالمنطقة بكاملها، أو جعلها على أقل تقدير على فوهة بركان يمكن أن يقذف حممه متى أرادت أمريكا ومعها الكيان الصهيوني، المستفيد الأول مما يجري، والذي يساهم كعادته بمد الأطراف المتصارعة بنصائحه المؤججة لمزيد من الصراع، سواء من وراء الكواليس وعبر وسطائه أو بشكل أوضح من خلال مراكز بحوثه والتقارير والتحليلات المستشرفة لنتائج مثل هذه الخلافات عبر وسائل إعلامه المختلفة، والتي يأخذها أصحاب القرار العربي كمسلّمات غير قابلة للتمحيص، فضلاً عن التشكيك بها.
مَن تابع موقف النظام الأمريكي من الثورات العربية، وتحديداً في مصر، حين اتخذ تلك المواقف المتناقضة في تأييد الجيش المصري بقيادة رئيس هيئة الأركان عبد الفتاح السيسي، آنذاك والرئيس الحالي اليوم، الذي أوقف كارثة تدمير الجيش المصري بثورة شعبية مضادة، وكذا تأييد «جماعة الأخوان» الممثلة بالرئيس المخلوع محمد مرسي، في نفس الوقت باعتباره رئيساً منتخباً بغرض إدخال مصر في اقتتال داخلي، يجد ذات المواقف المتناقضة نفسها في ما له علاقة بالأزمة الخليجية مع قطر، ولذات الهدف والفارق أنها كانت تتخذ شعار حرية الشعوب في اختيار من يحكمها، بينما هي اليوم أكثر اتساعاً بحيث تعدّت الصراع بين الشعب ونظامه الحاكم تحت مسمى «الثورة» إلى صراع بين الدول، بما فيها المؤتلفة تحت مسمى واحد «مجلس التعاون الخليجي».
وهنا يمكن التدليل بمواقف مؤسسات الحكم الأمريكية الفاعلة، إذ وفيما وزارة الدفاع الأمريكية تسارع إلى الثناء على موقف النظام القطري في محاربة الإرهاب من خلال قاعدة العيديد الامريكية في قطر كرد على اتهام مصر ـ السعودية ـ الامارات ـ البحرين بدعمه له، نجد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، يتهم قطر بتمويل الإرهاب، داعياً أميرها إلى التوقف عن استمرار مثل هذا الدعم، بينما كانت وزارة الخارجية اتخذت موقفاً وسطاً عبر دعوة أطلقها وزيرها لحل الخلاف الخليجي عن طريق الحوار، دون أن يقف مع طرف ضد آخر.
ومثل هذه التصريحات التي تبدو في ظاهرها متناقضة، ل ايمكن اعتبارها دليلاً على ضبابية الرؤية الأمريكية حول ما يجري من توتر في المنطقة، وبالذات عقب القمة الأمريكية العربية الإسلامية في الرياض، الذي كشف ترامب نفسه عن مناقشة موضوع كهذا والوصول الى اتفاق حوله، وهو ما يعني أن ضوءأً أخضر قد منح لهذه الدول كي تصعّد ضد قطر، والمشكلة ربما تكمن في زيادة جرعة مثل هذا التصعيد، بقدر ما تمثل مثل هذه التصريحات استمراراً للسياسة الأمريكية التي تنتهج خلط الأوراق حتى تختمر الأزمة وتصل إلى حالة من الإنسداد، وحينها تكون مواقف الدول الكبيرة في المنطقة قد اتضحت اتجاهاتها، ويمكن للإدارة الأمريكية، صاحبة النفوذ الأقوى على دول الخليج، التدخل وتوجيه مسار الصراع، بحسب ما تقتضيه أهدافها وإسرائيل دون السماح بوصول الأمور إلى حالة من الانفجار العسكري، حتى لا تتضرر مصالح أمريكا في منطقة الخليج العائمة على بحور من النفط، وهي المستفيد الأول من عائداته التي تموّل به الإقتصاد الأمريكي.
لذا، فإن اتهام ترامب لنظام قطر بدعم الإرهاب، لا يمكن عدّه إلا من باب الرد على تجاوزه حين استنجد بإيران وتركيا وطلب الحماية منهما، والذي تم ترجمته في الواقع بشكل سريع ومفاجئ. وهو ما اعتبر تهديداً لاستمرار الهيمنة الأمريكية على الخليج وثرواته، ويمكن أن يخلق واقعاً جديداً يمثل اختراقاً لفرز الصراع في المنطقة القائم على أساس مذهبي (سني ـ شيعي)، وهو الأمر الذي سعت إليه أمريكا ولا تزال