الصباح اليمني_قراءات|
ما الذي يريده الرئيس الأميركي ترامب من الانسحاب من معاهدة الأسلحة النووية المتوسطة المدى، المبرَمة عام 1987 بين الرئيس الأميركي رونالد ريغان وزعيم الاتحاد السوفييتي آنذاك ميخائيل غورباتشوف؟ وهل ذلك هو مقدّمة لتصعيد عسكري خطير بين البلدين أم إنّ الأمر هو مجرّد حلقة في سلسلة من الخلافات الحاصلة بين موسكو وواشنطن، والمضبوط سقفها بقرار من القيادتين الروسية والأميركية؟!.
إنّ توقيت هذا الإعلان الأميركي ملفتٌ للانتباه، فهو جرى قبل أسبوعين من الانتخابات الأميركية المقرّرة في السادس من شهر نوفمبر، وكأنّ ترامب يريد إيهام الرأي العام الأميركي بأنّه أشدّ صلابة تجاه موسكو من الرؤساء الأميركيين السابقين، وممّا يخفّف من أثر التحقيقات الجارية حول دعم روسيا له في انتخابات العام 2016.
أيضاً، ربّما يريد الرئيس ترامب تكرار الأسلوب الذي اتّبعه مع كوريا الشمالية بشأن سلاحها النووي، ومع كندا والمكسيك في مسألة “اتفاقية نافتا”، بحيث يكون التصعيد السلبي أوّلاً ثمّ التفاوض الإيجابي على اتفاقياتٍ جديدة. إذ كيف يمكن فهم الإعلان عن نيّة ترامب الانسحاب من الاتفاقية النووية مع موسكو وهو يشير إلى إمكانية عقد قمّة جديدة بينه وبين الرئيس بوتين وإيفاد مستشاره جون بولتون إلى العاصمة الروسية لشرح الموقف الأميركي؟!.
بعض المحلّلين الأميركيين اعتبر إعلان الانسحاب بأنه يصبّ لصالح روسيا التي تريد أصلاً التخلّص من قيود معاهدة 1987، لكن بغضّ النظر عن ذلك، فإنّ الرئيس ترامب يريد أيضاً إرضاء المؤسسة العسكرية الأميركية(البنتاغون) التي نشرت في شهر شباط/فبراير الماضي وثيقةً خاصّة بالسياسة النووية الأميركية تحثّ على تطوير أسلحة وقدرات أميركية نووية جديدة لمواجهة منافسين دوليين مثل روسيا والصين. وتحدّثت هذه الوثيقة عن الحاجة الأميركية لتصنيع نووي لصواريخ بالستية يتمّ اطلاقها من الغوّاصات بشحنة أخف وقدرة تفجيرية أقلّ تدميراً.
العالم يشهد في السنوات الأخيرة الماضية هبوطاً متدرّجاً لدور الإمبراطورية العسكرية الأميركية مقابل تصاعدٍ ملحوظ لدور وقدرات روسيا والصين، وما حدث ويحدث من توتّر وخلافات، خاصة بين واشنطن وموسكو، ليس بغيمة عابرة تصفو بعدها العلاقات ما بينهما. لكن أيضاً، ما نشهده من أزمات روسية/أميركية ليس هو بحربٍ باردة جديدة بين القطبين الدوليين. فأبرز سمات “الحرب الباردة” التي سادت بين موسكو وواشنطن خلال النصف الثاني من القرن العشرين كانت قائمةً على مفاهيم إيديولوجية فرزت العالم بين معسكرين: شيوعي شرقي، ورأسمالي غربي، وهذا الأمر غائبٌ الآن عن الخلافات الروسية/الأميركية. كذلك، فإنّ “الحرب الباردة” قامت على تهديدات باستخدام السلاح النووي بين الطرفين (كما حدث في أزمة صواريخ كوبا بمطلع الستّينات من القرن السابق) وعلى حروب ساخنة مدمّرة في دول العالم الثالث في سياق التنافس على مواقع النفوذ، وهي حالات بعيدة الآن عن واقع الأزمات الراهنة بين موسكو وواشنطن. فأولويّات روسيا هي مصالحها المباشرة وأمنها الداخلي وأمن حدودها مع الدول الأوروبية وإصرارها على مواجهة أيّة محاولة لعزلها أو لتطويقها سياسياً وأمنياً، كما فعلت واشنطن ذلك من خلال توسيع عضوية حلف الناتو ومشروع الدرع الصاروخي.
وتتصرّف موسكو حالياً مع إدارة ترامب بأمل أن تكون أكثر تفهّماً للموقف الروسي من الإدارة السابقة، وبأن يحترم الرئيس ترامب السياسات التي أعلنها حينما اجتمع مع الرئيس بوتين في هلسنكي.
لكن رغم التباين والخلافات القائمة حالياً بين موسكو وواشنطن، فإنّ الطرفين يحرصان على إبقاء الصراع بينهما مضبوطاً بسقفٍ محدد، خاصّةً في ظلّ الضغط الأوروبي العامل في هذا الاتجاه. فهناك عدّة دول أوروبية لا تجد لها مصلحةً في تصاعد التوتّر بين موسكو وواشنطن، ولا تريد أن تكون في حال يضطرّها للاختيار بين هذا الطرف أو ذاك. فروسيا الآن هي مصدر هام للطاقة في أوروبا، وهناك مصالح تجارية واقتصادية كبيرة تنمو بين الاتّحاد الروسي والاتّحاد الأوروبي. وهذا الموقف الأوروبي هو عنصرٌ مهمّ الآن من أجل ضبط الخلافات الروسية/الأميركية.
لم يكن الأمر هكذا في الأشهر والسنوات القليلة الماضية. فالتباين في المواقف بين موسكو وبكين من جهة، وبين واشنطن والاتّحاد الأوروبي من جهةٍ أخرى، كان في السابق قد بلغ درجةً كبيرة من السخونة، خاصّةً في الموقف من أوكرانيا وتطوّرات الأوضاع السورية. وقد لمس “حلف الناتو” جدّية الموقفين الروسي والصيني، و”الخطوط الحمراء” التي وضعتها موسكو وبكين في كلٍّ من سوريا وكوريا الشمالية.
لقد أدركت واشنطن أنّ فلاديمير بوتين يواصل قيادة روسيا الاتّحادية على قاعدة السياسة التي أطلقها أوّلاً عام 2007 في مؤتمر ميونخ، حيث أكّد آنذاك رفضه للقطبية الدولية الواحدة وللانفراد الأميركي بتقرير مصير العالم، ما اعْتبِر حينها نقطة تحوّل في سياسة موسكو ما بعد سقوط الاتحاد السوفييتي. فمنذ ذلك التاريخ، تنظر روسيا إلى بعض السياسات الأميركية بأنّها مصدر خطر مباشر على المصالح الروسية. أيضاً، كانت موسكو قد حذّرت من سياسة واشنطن العاملة على نشر منظومة “الدرع الصاروخي” في عددٍ من الدول، واعتبرت ذلك تهديداً للأمن القومي الروسي.
لكن هذه السياسة الروسية “البوتينية”، المستمرّة عملياً منذ العام 2007، لم تكن ساعيةً بالضرورة إلى عودة أجواء “الحرب الباردة”، ولا أيضاً إلى سباق التسلّح والحروب غير المباشرة بين موسكو وواشنطن، بل كان هدف روسيا في السنوات الماضية، ومن خلال السير بخطًى ثابتة ولو بطيئة، هو استعادة بعض مواقع النفوذ التي فقدتها عقب سقوط الاتحاد السوفييتي. وهاهي الآن، موسكو غير الشيوعية، تعود إلى العالم دولةً كبرى، قادرةً على المنح والمنع معاً!!.
كما أدركت الولايات المتحدة، وخلفها الحليف الأوروبي، مخاطر التأزّم في العلاقات مع موسكو وبكين في هذه المرحلة، وحيث توجد أيضاً رغبة كبيرة لدى إدارة ترامب بإقامة علاقات طيّبة مع روسيا الاتّحادية، رغم التحقيقات القانونية والتشريعية الجارية في واشنطن بشأن الدور الروسي في الانتخابات الأميركية الأخيرة، ورغم أيضاً ما يصدر من عقوبات يصدرها الكونغرس بغالبية كبيرة ضدّ روسيا. لذلك، لن تكون الأزمات المتكرّرة بين البلدين بحربٍ باردة جديدة بين قطبين دوليين متنافسين الآن. فأولويّات روسيا وأميركا هي مصالحهما المباشرة، وهذه المصالح لا تسمح باستنزافٍ متبادَل يضرّ بهما معاً.
* صبحي غندور ـ رأي اليوم
خليك معنا